كولومبيا

شرعَت كولومبيا في سلكِ الدربِ الطّموحِ المؤدِّي إلى السلام والمُصالحة وإحقاق العدالة لصالح ضحايا النّزاع الدّاخلي المُسلّح، وذلكَ من خلالِ تطبيقِ اتّفاق السّلام الشّامل الّذي أبرمَته في العام 2016 كلٌّ من الحكومة الكولومبية والقوات المسلحة الثورية الكولومبية - الجيش الشّعبي. ويواصلُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة مؤازرةَ هذه الجهود المبذولة، من خلالِ مُناصرة حقوق الضّحايا وإسداء المشورة التّقنيّة وتقديم المعرفة المُستمدّة من التّجارب المُقارنة، وذلكَ من أجلِ ضمانِ إحقاق العدالة لصالح الضّحايا.

الصورة
صورة امرأة مسنّة تبكي أثناء جنازة شخصية معروفة اغتيلت في بوغوتا.

امرأة مسنّة تبكي أثناء جنازة شخصية معروفة اغتيلت في بوغوتا. (سكوت دالتن)

حالياً

الخلفية: بعد عقودٍ من الصراع، تدعيم السلام ومنحُ الضحايا العدالةَ في كولومبيا

تسير كولومبيا في عملية تنفيذ اتفاق السلام لإنهاءِ 50 عامًا من النّزاع الدّاخلي الدّائر مع أكبر جماعة مسلّحة في البلد هي القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك). وقد وضعت مفاوضات السلام حقوق ضحايا النّزاع في المُحاسبةِ والحقيقة وجبر الضرر في صميمِ الحياة السياسية في البلاد. وفي هذا الصّدد، أدّى الضحايا دورًا جوهريًّا في السياسة الكولومبية في محطّاتٍ مُختلفة على مدَى عقودِ النّزاع، في حين، لا تزال المحاسبة عن الجرائم التي ارتكبتها القوات المسلحة غير التابعة للدولة تشكِّلُ محطّ خلافٍ سياسيّ عميق. ومع ذلك، يُجسِّدُ اتفاق السلام الشامل ثمرةَ الجهود واسعة النطاق والأكثر شموليّة الّتي بذلتها كولومبيا في سبيل معالجة أسباب النزاع الجذريّة والاستجابة لحقوق الضحايا على حدّ سواء.

انخرطَت في النزاع المسلح جهاتٌ عدّة وتدخلّت فيه مصالح كثيرة، وهو جاءَ نتيجةَ الطموحات السياسية والتوترات الاجتماعية والاقتصادية والتنافس على الموارد. وقد ساهمت عوامل عدّة في تفاقم النزاع وتدهوره، بما في ذلك استمرار المشكلات في استصلاح الأراضي (ومنها كثافة مُلكيّة الأراضي، والفجوة بينَ المدينة والرّيف، وأوجه عدم المُساواة)، وبروز ظاهرة تهريب المخدّرات وتفشِّيها، بالإضافة إلى محدوديّة المشاركة السياسية وانعدام حضور الدّولة وضآلة الخدمات في المناطق الأكثر تأثّرًا بالنّزاع.

خلال الستينات من القرن الفائت، انبثقَت مجموعات العصابات المسلّحة من انتفاضات الفلاحين والشيوعيين ضد الدولة. ومنذ الثمانينات، بدأت تتشكّلُ مجموعات يمينية شبه عسكرية، نتيجةَ تواطؤ بعضِ الموظفين العموميين، وقد ضمّت، في الأساس، مالكي الأراضي الذين أرادوا حماية أنفسهم من العصابات المسلّحة، وهو الأمر الّذي أعطَى النّزاع بُعدًا إضافيًّا. وكان من شأنِ تهريب المخدرات أن ساهمَ إلى حدّ كبير في تصعيد النزاع، حتّى أمسَى واحدًا من العوامل الرئيسة التي تُذكِّيه.

وقد سعت الجماعات المسلّحة مِن أطرافِ النّزاعِ كلّها إلى الحدّ من قدرةِ خصومها العسكرية وفرض سيطرتها على السّكان المدنيين من خلال ارتكاب جرائم مُرَوّعة. فكانَت نتيجة ذلك أن خلّفَ العنف الجماعي أكثر من 9 ملايين ضحية وقعوا على مدى السنوات الخمسين الماضية - أي ما يُعادل نحوَ 18 في المئة من أصلِ سكّان البلد. وبحسبِ ما وردَ في تقريرٍ أصدرَه المركز الوطني للذاكرة التاريخية في العام 2012، كانت حصيلةُ النّزاع:

  •    220 ألف قتيل
  •    نحو 6 ملايين نازح
  •    أكثر من 60,600 حالة إخفاءٍ قسري وجريمة جنسية وحالة عنف قائم على النّوع الاجتماعي
  •    6,500 طفلٍ وشابٍ مُجنّدين قسرًا

اتفاق السلام والتّحديات الرّاهنة

بعد 50 سنة من العنف وسقوطِ أكثر من 220 ألف قتيلٍ، أبرمَت الحكومة الكولومبية والقوات المسلّحة الثوريّة الكولومبيّة اتفاقَ سلامٍ لإنهاء أطول نزاعٍ شهدَه النصف الغربي من العالم. وهو اتّفاقٌ نهائيّ تضمّنَ نظامًا شاملًا للحقيقة والعدالة وجبر الضرر وعدم التّكرار، وُقِّعَ في أيلول/ سبتمبر من العام 2016، ثمّ طُرِحَ على التصويت الشّعبي من أجل الموافقة العامّة عليه في أوائل أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2016. لكنَّ نتيجة التّصويت لم تكن في الحُسبان، فقد صبّت لغيرِ صالحِ الاتفاق بفارقٍ ضئيلٍ جدًّا (50.2٪ لا؛ مُقابل 49.8٪ نعم)، ممّا أدّى إلى إطالةِ المفاوضات الدّائرة بين الحكومة وممثلي القوّات المسلّحة الثوريّة الكولومبيّة وإعادة النظر في بعض بنود اتفاق السلام. وعلى الرّغم من أنّ الاتفاق المُنقّح قد وقّعته جميع الأطراف ووافق عليه الكونغرس الكولومبي، قابلَهُ نصفُ الشّعبِ، بدايةً، بالصّدّ والرّيبة، ممّا عمّقَ أكثر الانقسام القائم في البلد حول مفاهيم السّلام والعدالة والأمن.

أُقيمت المفاوضات في هافانا في ضوءِ نتائج الاستشارات والنقاشات العامّة الّتي نُظِّمَت عبرَ عددٍ من الآليات، بما في ذلكَ المُنتديات الإقليميّة والمائدات المُستديرة حول السّلام، وهو ما أتاحَ للمجتمع المدني والضحايا والفئات الاجتماعية وغيرها طرحَ الآلاف من المُقترحات الّتي كان من شأنها أن أنارَت مُحتوى الاتفاق النهائي. فقد سافر أكثر من 60 ضحية من ضحايا الانتهاكات التي ارتكبها طرفَا النزاع إلى هافانا للإدلاء بشهادتهم حول تجربتهم ولعرضِ المقترحات على الأطراف المتفاوضة. ومن بين هؤلاء، 60 في المئة هنّ من النّساء.

ضمّ الاتفاق الأخير حصيلةَ أربعِ سنواتٍ من التّفاوض المُستمرّ حولَ ستّ نقاطٍ هي: الإصلاح في مجال استصلاح الأراضي، والمُشاركة السّياسيّة والمُخدّرات غير المشروعة والضّحايا وإنهاء النّزاع وإدخال اتفاق السّلام حيّز التنفيذ. ونصّ الاتفاق، في المسألةِ المُتعلّقة بالضّحايا، على عددٍ من الآليات الرّامية إلى تحقيق المُحاسبة على الانتهاكات الجسيمة وأداء الحقّ في الحقيقة والعدالة وجبر الضّرر للضّحايا، وتوفير الضّمانات بعدمِ التّكرار. وبالفعلِ، أحرزَت هذه المؤسّسات حديثة العهدِ (أي المحكمة الخاصّة للسلام، ولجنة الحقيقة ووحدة البحث عن المخفيين إبّان النّزاع) تقدّمًا بارزًا منذ بداية عمليّاتها في العام 2017. ومع ذلك، فهي لا تزالُ تواجهُ مُعارضةَ بعضِ القطاعات السّياسيّة والاجتماعيّة. وكان من شأنِ تزايد منسوب العنف في بعضِ المناطقِ والتّحضير للانتخابات المُزمع إجراؤها في العام 2022، أن فرضَا تحديّاتٍ جديدة لا بدّ من تخطيها للتمكّن من أداء حقوق الضّحايا على أتمّ وجه. وتجدرُ الإشارة إلى أنّ تفاقم أعمال العنف، بما في ذلكَ قتل قادة المُجتمع ومُقاتلينَ قُدامَى من القوات المسلّحة الثوريّة الكولومبيّة، يُعيقُ عمليّة إعادة إدماج أفراد القوات آنفة الذّكر في المجتمع ويؤثّر في مُشاركتهم السّياسيّة والاجتماعيّة على حدّ سواء.

الجهود السابقة من أجلِ المُحاسبة والإقرار والإنصاف

يُعدُّ اتفاق السلام الشّامل الأخير تتويجًا لعقودٍ طوال من مفاوضات السلام، وتسريح المقاتلين، والبحث عن الحقيقة والعدالة وجبر الضرر للضحايا. وتستمرّ هذه العملية حتّى بعد توقيعِ الاتفاق مع القوات المسلّحة الثوريّة الكولومبيّة، وذلكَ من خلالِ المفاوضات الدّائرة مع الجماعة المسلحة الرئيسَة الأخرى التي لا تزال تُقاتلُ القوات الحكوميّة، وهي جيش التحرير الوطني.

فبيْنَ العامَيْن 2003 و2006، أدّى الميثاقُ السّياسي، الّذي كانَ قد أطلقهُ الرئيس السّابق ألفارو أوريبي، إلى تسريح أكثر من 35 ألف فردٍ منتمينَ إلى الجماعة شبه عسكرية المُسمّاة قوات الدفاع الذاتي المتّحدة في كولومبيا، وذلكَ بحسبِ إحصاءٍ أصدرته الحكومة.

وفي العام 2005، أُقرّ القانون 975، المعروف باسم قانون العدالة والسلام، الّذي يُسهّل إعادة إدماج هؤلاء المقاتلين السابقين المُسرّحين في الحياة المدنية. وقد منح هذا القانون المقاتلين شبه العسكريين السابقين تخفيضَ عقوبة السّجن في مقابل الإدلاء باعترافاتهم كاملةً والمساهمة في دفع جبر أضرار الضحايا وإحلال السلام الوطني. وبحلول تشرين الأوّل/ أكتوبر من العام 2020، كان أكثر من 4400 مقاتل شبه عسكري سابق قد مثلَ أمام محاكم العدل والسلام، إلّا أنّ عدد الأحكام الصّادرة اقتصر على 650 حكمًا. وفي حين يؤخذ على العملية تقصيرها في سوق جميع الجناة إلى المُحاسبة وجلاء الحقيقة كاملةً حول هذه الظاهرة شبه العسكريّة، فقد نجحَت في إيجادِ بيئة مؤاتية لجهودِ منظمات الضحايا في مجالات الحقيقة والعدالة وجبر الضرر. إلّا أنّ الكثير من المجموعات شبه العسكريّة السّابقة، عاودَت، للأسفِ، البروزَ على شكلِ عصابات إجرامية تُهدّد حاليًّا تنفيذ اتفاق السلام في المناطق.

في العام 2011، أقرّت إدارةُ الرئيس خوان مانويل سانتوس القانون رقم 1448، المعروف باسم "قانون الضحايا"، الذي استحدَث برنامج جبرِ ضررٍ شامل ووضعَ آليات للبحثِ عن الحقيقة وإجراءات استرجاع الأراضي لصالح ضحايا النزاع المسلّح. وأنشأت الحكومة مؤسسات جديدة أُنيطَ بها تنفيذ هذه البرامج، وأبرزها "وحدة الضحايا" و"وحدة استرجاع الأراضي"، "والمركز الوطني للذاكرة التاريخية."

حتى الآن، تمكّنت هذه المبادرات من توفيرِ بعضِ تدابير العدالة لعددٍ من الضحايا، لكنّ النّزاع الدّائر أحطَّ من فعاليّتها: فقد صعُبَت على هذه المُبادرات معالجةُ الانتهاكات التي ارتكبت خلال النزاع في ظلِّ استمرارِه. أمّا وقد دخلَ اتفاق السلام حيّزَ التّنفيذ، فَستواصلُ هذه المؤسسات عملها في سياقٍ جديد قد يوجِدُ لها الكثير من الفرص السّانحة للتأثير.

دور المركز الدولي للعدالة الانتقالية

يَعملُ المركز الدولي للعدالة الانتقالية في كولومبيا منذ العام 2005، فَيدَعم عمل مجموعات الضحايا، ويُقدّم المساعدة التقنية والتدريب، ويؤثّر في سياسات العدالة الانتقالية الوطنية، وذلكَ من خلال المُناصرة والحوار السياسي، وتوسيع أفقِ الفهمِ حولَ إرساءِ العدالة الانتقالية في البلد عن طريقِ التوعية واستراتيجيات الاتّصالِ والتواصل.

بناء القدارت: يُقدِّمُ المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة المُساعدة التقنية لكلٍّ من المحكمة الخاصّة للسلام ولجنة الحقيقة ووحدة البحث ومَا عداها من المؤسّسات الوطنيّة الّتي تدفعُ إحقاق العدالة للضحايا قدمًا، بمَا فيها مكتب المُدّعي العام ومحاكم العدل والسّلام. وفي هذا الإطار، أصدرَ المركزُ تقاريرَ تقنيّة من شأنِها تنويرَ مسار العمليّات الأساسيّة. بالإضافة إلى ذلك، يدعمُ المركز الدوّلي للعدالة الانتقالية منظمات المجتمع المدني في بوغوتا وسائر المناطق، بما فيها منظّمات الضحايا والنّساء، فيُقدّم لها التدريب، وينظّمُ لها الحوارات، ويمدّها بالمُساعدة من أجلِ عرضِ تقاريرها حولَ الانتهاكات الجسيمة على مؤسسات العدالة الانتقاليّة ومن أجلِ ضمانِ مُشاركتها في هذه الآليات أيضًا.