العدالة في عصر كوفيد-19: مسؤوليتنا العالمية

31/03/2020

نواجه اليوم أزمة صحة عامة عالمية ذات أبعاد غير مسبوقة. وحده الوقت سيبيّن الخسائر الهائلة التي سيلحقها كوفيد-19 بحياة الإنسان. إن السرعة الفائقة التي ينتشر بها الفيروس لا تعطينا سببًا للتفاؤل في المستقبل القريب. حتى كتابة هذه الرسالة، تم تسجيل أكثر من ٥٧٥٠٠٠ إصابة و٢٦٠٠٠ حالة وفاة في جميع أنحاء العالم. كما أن هذا الوباء قد شلَّ الاقتصاد العالمي. من أجل التعامل مع الأزمة وإبطاء انتشار الفيروس، أعلنت دولٌ ومدنٌ كبرى وبلديات حالات الطوارئ وأصدرت أوامر صارمة تفرض إغلاق الأعمال غير الضرورية والمكاتب الحكومية والمدارس وتطلب من السكان البقاء في المنزل والحد من الاختلاط الاجتماعي. ونتيجةً لذلك، خفّضت المصانع إنتاجها أو أوقفته، وبدأت الوكالات الحكومية بتسريح الموظفين، كما قامت الشركات الكبيرة والصغيرة بتسريح العمال بالآلاف، مما زعزع الأسواق. ومن بين الأكثر تضرراً العمال ذوي الأجور المنخفضة، والذين يعتمد الكثير منهم على الاقتصاد غير الرسمي أو المستقل.

نحن في المركز الدولي للعدالة الانتقالية ندرك تمامًا خطورة الأزمة، ونتحمّل مسؤوليتنا تجاه صحة وسلامة موظفينا وشركائنا والمجتمعات حيث نعمل بجدية. نحن نلتزم بجميع الأوامر والتوصيات الصادرة عن منظمات الصحة العامة ونتخذ جميع الاحتياطات اللازمة لإبطاء انتشار الفيروس. ولهذه الغاية، أغلق المركز الدولي للعدالة الانتقالية مقرّه في نيويورك في ١٣ آذار/مارس الماضي، ومنذ ذلك الحين أغلق جميع مكاتبه القطرية تدريجيًا. يواصل الموظفون العمل من منازلهم، مع الاستفادة المثلى من التكنولوجيا المتاحة للبقاء على اتصال مع بعضهم البعض ومع شركائنا عبر الحدود وفي الميدان.

كما قام المركز الدولي للعدالة الانتقالية بتعليق جميع رحلات السفر حتى الأول من أيار/مايو على الأقل، وأرجأ الاجتماعات والمؤتمرات وورش العمل والتجمّعات الأخرى المقررة للأشهر الثلاثة المقبلة. هذه أوقات صعبة ونحن نقوم بتعديل ومراجعة خطط عملنا بشكل استباقي لضمان قدرتنا على مواصلة تعزيز مهمتنا ودعم عمليات العدالة الانتقالية في جميع أنحاء العالم في هذا الوقت العصيب. لا يزال المركز الدولي للعدالة الانتقالية، وقبل كل شيء، داعم وجامع لأصحاب المصلحة وصانعي التغيير الذين يسعون إلى تحقيق العدالة في أصعب السياقات. حتى في هذه اللحظة من الحجر الجماعي، والقيود المفروضة على الحركة، والعمل عن بعد، والتباعد الاجتماعي، كونوا مطمئنين أننا نستكشف جميع الخيارات لمواصلة الجمع بين الناس، بشكل افتراضي كما من خلال جهود أكثر استهدافًا للحفاظ على العلاقات وبناءها.

تحوّلت دورة الأخبار اليومية إلى تحديث يركز بشكل فريد وبدون توقف على الأزمة الصحية العالمية الحالية. إن التقارير والتحليلات المتعمقة التي ربما تم تخصيصها قبل بضعة أسابيع فقط للأحداث في البلدان المتضررة من الحرب أو الخارجة من النزاع أو القمع، أخذت مقعدًا خلفيًا لوباء كوفيد-19. إن إعادة تنظيم الأولويات في وسائل الإعلام الإخبارية له ما يبرره تمامًا وهذا في الواقع مهم للغاية لضمان حصول جميع الناس على معلومات دقيقة وحديثة، لا سيما إذا كانت هذه المعلومات تصل إلى مجتمعات ضعيفة ومهمّشة. في العديد من هذه المجتمعات، سبل وصول الناس إلى معلومات موثوقة أو إلى العدالة ضئيل أو غير متوفر - هم ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، هم يعيشون في مجتمعات مزقتها الحرب، هم لاجئون أو نازحون داخليًا. غالبًا ما يكون هؤلاء البشر من بين أكثر الناس احتياجًا في العالم، وبالتأكيد سيكونون الأكثر عرضة للتضرّر من فيروس كورونا.

في الواقع، لقد أظهرت أزمة كوفيد-19 بالفعل أننا نواجه أكثر من مجرد حالة طوارئ طبية. لقد امتد الوباء إلى أقصى حد أو حتى كسر أنظمة الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية لبعض أغنى البلدان في العالم. وبشكل عام، فإن الوضع يبرز إلى الواجهة العديد من المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأساسية الأخرى المتجذرة في عدم المساواة والإقصاء والظلم التاريخي. الآن، بعد أن أصاب الفيروس البلدان الأكثر فقراً - حيث المؤسسات أضعف، ومعظم الاقتصاد غير رسمي، ولا يستطيع الكثير تحمل "رفاهية" الحجر المنزلي أو المساحة الإضافية اللازمة للتباعد الاجتماعي - من المرجح أن يرتفع عدد الحالات والوفيات. سيكون هناك أيضاً خطر متزايد من الاضطراب الاجتماعي أو العنف. وبالمثل، قد تستغل بعض الحكومات الاستبدادية التدابير الوقائية التي تتخذها لاحتواء الفيروس، لتوسيع سلطتها أو إساءة استخدامها.

اللغة الحربية التي يتم نشرها بشكل متكرر في وسائل الإعلام أو من قبل السياسيين لوصف الوباء وإجراءات التصدي له لا تساعد. قد تكون هذه المصطلحات مفيدة لإشعار الناس بالإلحاح والعقبات الهائلة المقبلة، ولوصف تعبئة الموارد للتعامل مع الآثار، والتي يمكن أن تكون مشابهة لما يتطلبه النزاع المسلح. ولكن في المقابل، يمكن  أن تقلل أو تحجب المأساة الحقيقية وفوضى الحرب المحتدمة في أجزاء عديدة من العالم. فيروس كورونا هو بلا شك كارثة على الإنسانية، لكنه ليس عدوّا مسلّحًا يطلق النار علينا عمداً من خلف خطوط المعركة أو يخطط لاستراتيجيات عقلانية لقتل البشرية.

في مناطق الحرب الواقعية، مثل تلك التي في سوريا واليمن، من المرجح أن يطغى هذا الوباء على أناس مدمرين أصلاً - الأشخاص الذين دُمرت منازلهم أو الذين فروا من الاضطهاد، والجياع، ومن فقدوا سبل معيشتهم، والذين يفتقرون إلى سبل الوصول للرعاية الطبية والخدمات الأساسية الأخرى. وفي البلدان الخارجة من نزاع أو قمع وتتصارع مع إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لا يزال العديد من الضحايا وأفراد المجتمعات المهمّشة، يكافحون من أجل كسب الرزق وتأمين الغذاء الكافي والمياه النظيفة والرعاية الصحية؛ هم أيضاً معرضون بشدة لفيروس كورونا.

في هذه الأوقات، نشعر جميعًا بالخطر وعدم اليقين والارتباك، حتى مع لجوء الكثير منا إلى منازلنا التي تنعم بالكهرباء العاملة والمياه الجارية والإنترنت السريع. غالباً ما تكون متاجر البقالة والخدمات الأساسية الأخرى قريبة، مما يضمن أن سلسلة الإمداد لا تزال سليمة وتجنّب الذعر الاجتماعي وربما الاضطرابات المدنية. بالإضافة إلى ذلك، تمتلك بعض حكوماتنا الموارد والقدرة على اتخاذ قرارات جريئة للتأقلم مع الآثار الاجتماعية والاقتصادية. من المؤكد أن مخاوفنا لها ما يبررها؛ التهديد الفتّاك لصحتنا وصحة عائلاتنا ومجتمعاتنا هو حقيقة لا جدال فيها. وبالمثل، فإن النتائج المدمرة التي يواجهها الكثيرون بالفعل، من حيث البطالة وفقدان دخل الأسرة، لا يمكن إنكارها. ومع ذلك، يجب أن يمنحنا حجرنا في المنزل بعض المساحة للتوقف للحظة والتفكير في امتيازاتنا. إن الشعور بالضعف الذي نعيشه اليوم يجب أن يجعلنا متعاطفين مع أولئك الذين يعيشون في ظروف أكثر هشاشة، سواء كانوا قريبين من الوطن أو أبعد من ذلك، والذين سيتأثرون أكثر من غيرهم بانتشار الوباء.

تم الإعلان عن أن فيروس كورونا هو وباء عالمي في ١١ آذار/مارس عندما وصل إلى أكثر من ١٠٠ دولة. ظهر كوفيد-19  لأول مرة في ووهان، الصين، حيث انتشر بسرعة عبر المدينة. على الرغم من أن الجهود المبذولة في ووهان لاحتواء الفيروس كانت بكل المقاييس واسعة واستثنائية، نجا الفيروس. لم يقتصر الأمر على تجاوزه الإغلاق التام، فقد تجاوز أيضاً الحدود والمحيطات والدول والقارات المتقاطعة في غضون أسابيع. إلى حين كتابة هذه السطور، تم تسجيل حالات كوفيد-19 في أكثر من ١٩٠ دولة.

كانت طبيعة الاستجابة العالمية استثنائية. قام العلماء والباحثون الطبيون وخبراء الصحة العامة من جميع أنحاء العالم بحشد المصادر والتعاون عن بعد وبشكل آني لمشاركة النتائج والممارسات الفُضلى. نأمل أن يكون الحل، سواء كان لقاحًا أو علاجًا مؤكدًا أو كليهما، حلًا عالميًا ويتم توزيعه عبر الحدود على جميع المتضررين، بتكلفة قليلة أو بدون تكلفة.

ومع ذلك، هناك قلق حقيقي من أن التدابير الرامية لعزل أنفسنا ومنع انتشار الفيروس، يمكن أن تساهم في الواقع في سلوكيات عنصرية ورهاب الأجانب والاتجاه المتزايد للعزلة الجيوسياسية بين الدول - أي التحول إلى الداخل داخل المجتمعات وبعيدًا عن التعاون والمساعدة الدوليين. لذلك من الضروري أن نقوم بتصميم وتنفيذ حلول عالمية تحمي صحة الجميع وتؤكد كرامة أولئك الذين عانوا من انتهاكات لحقوقهم، بما في ذلك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والذين حُرموا من العدالة.

يحثنا خبراء الطب والصحة العامة جميعًا على غسل أيدينا كثيرًا وبالكامل. عادة ما يعني التعبير الشائع "غسل اليدين من شيء ما" إعفاء نفسه من المسؤولية عن شيء ما. في الأزمة العالمية الحالية، يبدو أن المعنى قد انقلب رأساً على عقب. في غسل أيدينا اليوم، نحن نقبل ونتحمل مسؤوليتنا تجاه الآخرين أينما كانوا. وبينما ننظر إلى الأمام، نرجو أن نتحمل بالمثل مسؤوليتنا تجاه الأشخاص الأكثر ضعفاً وجميع ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم.