فقدان الذاكرة يعيد شياطين الماضي

29/05/2016

بقلم سهام بن سدرين

تأسست هيئة الحقيقة والكرامة التونسية في يونيو عام 2014 من قبل الجمعية الوطنية التأسيسية كآلية مستقلة مكلفة بالتحقيق في الانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان التي ارتكبت خلال نصف قرن من الاستبداد. وهدفها النهائي هو استعادة الذاكرة الجماعية.

بدأنا من خلال دراسة تجارب العدالة الانتقالية في دول أخرى للاستلهام منها.

وعلى الرغم من أوجه القصور التي لاحظناها في جهود المغرب لإثبات الحقيقة، وخصوصا في كفاحهم ضد الإفلات من العقاب، فإن خبرتهم تحمل نجاحا لا جدال فيه: فقد ساهم العالم الأدبي في الكشف عن الحقيقة أكثر من أي أداة كلاسيكية أخرى استخدمت من قبل هيئة الإنصاف والمصالحة ، الآلية المؤسسية للعدالة الانتقالية في المغرب في عام 2004.

فقط منذ أن بدأت السينما والفنون والأدب في الحديث عن هذه الحقائق المؤلمة من روايات الضحايا (وهم كثر عبر التاريخ المغربي منذ استقلاله) رُدت أهداف العدالة الانتقالية إلى الصواب. وكان انتصار الفنون ضد النسيان وضد التلاعب بالذاكرة من قبل السياسيين.

في تونس، بدأت عملية العدالة الانتقالية فورا بعد ثورة يناير عام 2011 مع قرارات محدودة وغير منسقة. استغرق الأمر سنتين لتأسيس آلية مكرسة خصيصا لتقصي الحقائق، مع إطلاق هيئة الحقيقة والكرامة في يونيو 2014.

منذ اليوم الأول كانت هيئة الحقيقة والكرامة هدفاً لحملة قوية تهدف إلى تشويه جوهر ولايتها. فقد هتف البعض "لا توقظوا الموتى". وأصر البعض أن "الحفر في الماضي قد يعمق الشروخ ويقسم مجتمعنا" أو أن "العدالة الانتقالية هي مخاطر محتملة لزعزعة الاستقرار السياسي". والأسوأ من ذلك، شكك البعض في مبدأ المساءلة نفسها.

في غضون 18 شهراً من العمل، تلقت هيئة الحقيقة والكرامة التونسية بالفعل أكثر من 33000 شكوى مرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان خلال ال 60 عاما التي تشملها ولايتها (منذ استقلال تونس). 90٪ من هذه الشكاوى هي عن انتهاكات حقوق الإنسان، ويرتبط الباقي بالفساد.

أجرت هيئة الحقيقة والكرامة التونسية أكثر من 4500 جلسة مغلقة للاستماع للضحايا. يُمكنني أن أؤكد لكم أنه صادم جدا للضحايا رواية معاناتهم وللمستمعين سماع قصص اغتصاب النساء والأطفال، وأنواع مختلفة من التعذيب (بأدوات حادة، الغرق الوهمي، الخ ...)، الحيوات التي خرّبت، االطلاق الإجباري، حرمان الأطفال من كلا الوالدين وبالتالي تعريضهم للانحراف ... هو هذا "جحيم دانتي" الذي تهدف عملية العدالة الانتقالية إلى مواجهته والتخلص منه عن طريق الكشف عن الحقيقة.

ومن المدهش أن نكتشف خلال هذه المشاورات إعلان الضحايا ذاتهم عن استعدادهم للغفران إن اعترف الجناة بجرائمهم وتابوا علناً. بل لعله أكثر إثارة للدهشة أن الجناة يقدمون أنفسهم باعتبارهم "مدافعين عن الدولة"، ويتصرفون باسم الدولة وتحت سلطتها، الذين يحمونا من "أعداء الشعب"، وبالتالي يرفضون طلب الغفران.

وقد أشارت حنة أرندت إلى "تفاهة الشر" وكيف أن أولئك الذين يرتكبون جرائم ضد الإنسانية ليسوا دوماً واعيين بأخطائهم . وأن شعورهم بالدفاع عن النظام الذي من المفترض أن يعمل من أجل الصالح العام يكسبهم نوعا من السياسة. تبدو" الشرعية" تعمل بمثابة الغفران الذي يحط من إنسانية الخصم وتسكن ضمائرهم.

إننا بالتأكيد نواجه جريمة منظمة، نظام استبدادي حطم كل شيء على طول الطريق باسم الدولة، دولة ملتزمة بمصالح العشيرة وليس بمصالح مواطنيها.

يعتقد الضحايا حقاً أنهم ينتمون إلى جيل ضائع، ولكنهم يصرون على فعل كل شيء لإنقاذ مستقبل أبنائهم. هذا الضرر الغير مباشر غذى أطفالهم بكراهية ضد الدولة لعقود. فالدولة التي كان من المفترض أن تضمن الحقوق والحرية تحولت لمرتكبة للعنف الذي عانى منهم آبائهم. إفلات موظفي الخدمة المدنية الذين ارتكبوا جرائم من العقاب غالبا ما يثير احتجاجات عنيفة.

اليوم، تستهدف المنظمات الإرهابية الإجرامية هؤلاء الشباب للتجنيد. ويتمثل التحدي في فصل الشباب عن هذا التأثير وتوفير تأهيلا بديلا لهم. مواجهة هذا التحدي تبدأ من الاعتراف العلني بانتهاكات حقوق الإنسان ثم العمل على طلب الدولة للغفران. بعد ذلك يمكن لعملية الشفاء الخاصة بإعادة البناء الاجتماعي أن تبدأ، تلك التي تعيد الضحايا لكرامتهم التي تم تمزيقها إلى أشلاء.

هذه العملية يجب أن تتم من خلال المصالحة بين الدولة و مواطنيها، والتحدي هو ضمان أنه من اليوم الأول أن يشعر جيل الشباب أن الدولة على جانبهم، وليست عدوهم. المساءلة هي القوة الأساسية لتوطيد الحقيقة، وهذا هو العلاج الوحيد للأذى الذي تم القيام به. والتذكر العام هو جزء من عملية المساءلة. لا يمكنك إفسادها إلا إذا كنت تراهن حرفيا على مستقبلك.

بدون مثل هذا النهج للماضي، فإنه من المستحيل وضع حد للعنف ومنعه وحماية المجتمع من ذلك في المستقبل. فقدان الذاكرة هو أمثل وسيلة ممكنة لتسهيل عودة شياطين الماضي.

الدكتاتورية تترك دائما وراء نفسها حقل ألغام مصنوع من الألم والدموع والإذلال وندوبا عميقة وكراهية متراكمة. في هذه الحقول تهاجم الكراهية مجتمعاتنا مثل الغرغرينا وتعيق تنميتها. الحل يكمن في عملية التذكر، والتي يمكنها إشراك الجمهور بطريقة تقدم ضمانات بعدم التكرار.

اختيار الالتزام بعملية العدالة الانتقالية من أجل ضمان نجاح العملية الانتقالية أنقد تونس. بعد خمس سنوات من الثورة، لم يتحقق كل كل شيء ولا زلنا بعيدين عن ذلك . ولكن نأمل أن يكون الشفاء واضحا، والفضل يعود لهذه العملية من مواجهة الماضي ومحاولة علاجه مع الاحترام الذي يستحقه.


سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة التونسية.
*الصورة: سهام بن سدرين تلتقي بمجموعة من النساء التي قدمن شهادتهن للهيئة، تونس العاصمة، ١٦ مايو ٢٠١٦*