بعدَ صدور التقرير بشأن التعذيب، لا يُمكن التغاضي عن حقوق الضحايا أو عن مُحاسبة مُرتكبي الجرائم

12/15/2014

بقلم دافيد تولبيرت

بعد تأجيلٍ طالَ أمدُه، نُشرَ أخيرًا التقرير الجزئي الذي أعدّته لجنة المخابرات في مجلس الشيوخ الأمريكي حول برنامج الاعتقال والاستجواب المُعتمدِ في وكالة المُخابرات المركزية الأمريكيّة "سي آي إيه" (CIA) لتنجليَ بذلك الحقيقة وتبان على الملأ، ولو بعد حين. أمّا الانتهاكات التي يسردها التقرير سردًا مُفصّلًا ومُبسّطًا، فتضيقُ بها الأنفسُ ذرعًا. إذ يوثّق التقرير حقبةً من الفوضى القانونيّة عرفتها السي آي إيه، ويُظهر ضلوع مسؤولين رفيعي المُستوى من الحكومة الأمريكية في ارتكاب جرائم وحشيّة ومُروّعة، ومن بينها أساليب التعذيب المنهجي التي تُعدّ انتهاكًا لكلّ من اتفاقيّة مُناهضة التعذيب (التي تنضوي إليها الولايات المتحدة الأمريكية) والقانون الأمريكي على حدّ سواء.

ويأتي تقرير مجلس الشيوخ ليؤكّد النتائج التي كشفَ عنها كلّ من المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة في جُملةٍ من التقارير العائدة إلى العام 2008، وما سواه من المجموعات الحقوقيّة؛ إذ أفادت النتائج هذه بأنّ مُمارسة التعذيب المنهجية بحق المُعتقلين في السجون السريّة المُقامة خارج الأراضي الأمريكيّة حظيت بموافقة المسؤولين الأرفع شأنًا في الحكومة الأمريكيّة الذين أشرفوا عليها أيضًا. إلى ذلك، أشارت رئيسة لجنة المخابرات في مجلس الشيوخ، ديان فينشتاين، في مُقدّمة التقرير إلى أنّ هذه المُمارسات شكّلت "انتهاكًا [صارخًا] للقانون الأمريكي ولالتزامات المُعاهدة ولقيمنا".

لطالما أحطنا علمًا، منذ عقدٍ ونيّف، بتفاصيلَ عن مُمارسات غير مشروعة تعتمدها الولايات المتحدّة الأمريكية في الاعتقال والاستجواب، إلّا أنّ "التقرير بشأن التعذيب" يكشفُ قناع الشّك عن مُحيّا اليقين في مسألة تورّط الحكومة الأمريكية في انتهاج التعذيب على نحوٍ وحشيّ وواسع النطاق وفي ارتكاب أعمالٍ إجراميّة أخرى بحق لائحةٍ طويلةٍ من الأسماء، من دون أدنى مراعاةٍ للأصول القانونيّة أو حتّى مُحاكاةٍ للعدالة.

لم يصدر التقرير الكامل المؤلّف من 6700 صفحةٍ بعد، إلّا أنّ الموجز التنفيذيّ المُطوّل والمُنقّح مرارًا وتكرارًا سطّرَ صورةً شنيعةً عن ممارسات إجراميّة غير أخلاقيّة تتخطّى بأشواط ما قد كُشفَ سابقًا أمام العامّة من الناس. هذا ويتطرّق الموجز إلى أكذوبةٍ هشّةٍ مفادها أنّ التعذيب أحبطَ، بطريقةٍ أو بأخرى، مؤامراتٍ إرهابيّة وأنقذَ حيوات الأمريكيين. ويستند التقرير إلى ما يزيد عن خمسة ملايين دليلٍ صادرٍ عن وكالة السي آي إيه نفسها، ليكشفَ بشكلٍ قاطع زيفَ الادعاء هذا؛ ثمّ يُلقي الدليلُ الدامغ بوزره على ادعاءات السي آي إيه الواهية لتتهاوى كما بيت العنكبوت. إلى ذلك، يُقرّ التقرير إقرارًا صريحًا لا لُبسَ فيه أنّ برنامج التعذيب الخاص بالسي آي إيه انتُهِجَ مُطوّلًا نتيجةَ تضليل عامّة الناس ومجلس النوّاب وحتّى البيت الأبيض.

وحسبُ عيّنة واحدة من الانتهاكات أن تدبَّ الرعبَ في الأنفس. فحُرمَ المحتجزون النوم فتراتٍ طويلة امتدت أسبوعًا كاملًا، واحُتجزوا في زنزاناتٍ ضيّقة وتعرّضوا للضرب المُبرح وسُلّطت عليهم بعض الحشرات وأوهِموا بالدفن أحياءً وأُجبروا على اتخاذ "وضعياتٍ مُجهدة". إلى ذلك، وبعدَ تلقي الضوء الأخضر من طاقم السي آي إيه الطّبي، تعرّض بعض السجناء للتغذية والإماهة الشرجيّة على نحوٍ قسريّ ودونما أيّ داعٍ طبيّ، الأمر الذي قد بلغَ حدَّ الاغتصاب. هذا وأُبقي أحد السجون بلا تدفئة على الرغم من البرد القارس فتجمّدَ مُحتجزٌ على الأقل ولقيَ حتفه. وقيلَ لبعض المحتجزين إنّهم سيُقتلون في السجن، فتعرّضَ عددٌ منهم على نحوٍ متكرر للإيهام بالغرق، وهو أسلوبُ تعذيب يُحاكي الإعدام. وقد خضعَ خالد شيخ محمّد وحده للإيهام بالغرق 183 مرة ذلك قبلَ الإقرار بأنّ الأسلوبَ هذا لا يُجدي نفعًا.

ونعلمُ حاليًّا أنّ 119 رجلًا على أقل تقدير احتُجزوا في سجون السي آي إيه، من بينهم 26 رجلًا اعتُقِلوا عن طريق الخطأ على حدّ زعم السي آي إيه. ويتمتّع ضحايا التعذيب هؤلاء بحق التعويض القانوني، غير أنّ ذلك يقتصر على من لم توُجّه إليهم أيّ تهمة، بصرف النظر عن احتجازهم لفتراتٍ طويلة.

أمّا وقد اتخذ مجلس الشيوخ على عاتقه إجلاء الحقيقة في مسألة المُمارسات العنيفة هذه، فحريّ بالولايات المتحدة الأمريكية أن تُحاسبَ المُرتكبين وتُمعن النظر في التزاماتها تجاه ضحايا سياساتها الخاصة بالاعتقال. وكما يُوضّح تقرير مجلس الشيوخ، فإنّ أساليبَ التعذيب التي مورست في سجن أبو غريب وبانت على الملأ في العام 2003 موثّقةً بصورٍ فوتوغرافيّة مروّعة لم تكن نتيجةَ أعمالٍ اقترفها بعض العناصر الأمريكيّة المُخادعة أو بعض المُفسدين، بل شكّلت جزءًا من مُمارسةِ التعذيب ممارسةً منهجيّةً واسعَة النطاق حظيت بموافقة المسؤولين الأرفع شأنًا في الحكومة.

واصطدمت الدعوات المُطالبة بالتعويض وجبر الضرر بجملةٍ من العوائق الإجرائيّة والقانونيّة على حدّ سواء. ففي مُستهل هذا الأسبوع، نُقلَ ستة سجناء إلى الأوروغواي حيث سيُعاد توطينهم بصفتهم لاجئين، بعد أن أمضوا إثنتي عشرة سنةٍ في معتقل غوانتانامو. هذا ولا يزال سبعة وستّون سجينًا مُحتجزين في المُعتقل آنف الذكر على الرغم من اعتبارهم مؤهلين للخروج، وذلك نظرًا إلى عدم توفّر بلدٍ مستضيفٍ ثالث، الأمر الذي يتنافى والقانون الأمريكي والالتزامات الأمريكيّة تحت سقف القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية مناهضة التعذيب والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية اللذين يُحتّمان على موقيعيهما، ومن بينهم الولايات المتحدة الأمريكية، التعويض على الضحايا.

وبحسب التقرير بشأن التعذيب، اختلقَ محامو السي آي إيه منذ العام 2001 حُججًا قانونيّة "لتجنّب مُحاكمة المسؤولين الأمريكيين الذين اعتمدوا التعذيب من أجل الاستحصال على المعلومات." ويقع على عاتق الحكومة الأمريكية التزامٌ قانونيّ بتوقيف كلّ من اقترفَ هذه الانتهاكات الصارخة ومُحاسبتهم على جرائمهم المُرتكبة. غير أنّ أحدًا من المسؤولين لم يمثل بعد أمام المحكمة بتهمة إجازة انتهاج التعذيب، ما يُعدّ انتهاكًا للقوانين الوطنيّة والدولية على حدّ سواء، وبدلًا من ذلك، ينعمُ واضعو هذا البرنامج ومُجيزوه بعفوٍ خفيّ وغالبًا ما يُنصّبون في مراكزَ مرموقة وعالية الدخل.

كثيرةٌ هي الدول، ولا سيما دول أمريكا اللاتينيّة، التي وضعت على طاولة البحث تاريخَها في استعمال أساليب التعذيب وغيره من الجرائم الفادحة في خضم تعزيز التزامها بالقيم الديموقراطيّة وحقوق الإنسان لا التضحية به. وفي بداية الأمر، واجهت الدول آنفة الذكر حُججًا مناهضة للمحاسبة مُماثلة لتلك التي تدلي الولايات المتحدة بها اليوم، إذ تجد هذه الأخيرة أن الحقائق لم تأتِ بأيّ جديدٍ يُذكر وأنّ الأعمالَ كانت مُبرّرة كما تعتبر أنّ النظرَ في الانتهاكات من شأنّه أن يُشرذمَ الساحة السياسيّة، وأنّه من الأجدى صبّ التركيز على المضي قدمًا.

ويُعدّ تقرير مجلس الشيوخ، على الرغم من كثرة التنقيح فيه، خطوةً أولى نحو إماطة اللثام عن الانتهاكات الجسيمة، وإن فاتَ أوان وضع التقرير الكامل في متناول العامة من الناس. أمّا دونالد رامسفيلد الذي كان وزير الدفاع الأمريكي ولعلّه العقل المدبّر الرئيس وراء "أساليب الاستجواب المُعزّزة"، فقال إنّ "حقائق مُقرّرة" حول التعذيب الأمريكي تتوفر حاليًا، لكن ثمّة حقائق أخرى نحتاج إلى معرفتها أيضًا.

فالعدالة، ناهيكَ عن القوانين، أمحليّة كانت أم دولية، تدعو إلى مُحاسبة الجُناة الأساسيّين على جرائمهم وإلى الاعتراف بالانتهاكات وإلى تعويض الحكومة على الضحايا. وقد حذت مجتمعاتٌ حول العالم هذا الحذو لا لأنّها تضطلع بالتزامٍ قانونيّ للقيام بذلك وحسب، بل لأنّها توّد إرسال إشارةٍ تبيّن استعدادها الامتثال لسيادة القانون أيضًا، "فالظلم، أينما وقعَ يُهدّد العدالة في كلّ مكان"، حسبما صرّح الدكتور مارتن لوثر كينغ.

فكيف يُمكن الولايات المتحدة الأمريكية التي تتباهي بتقاليدها الحافلة باحترام سيادة القانون وحقوق الإنسانيّة أن تغضّ الطرف عن وصمة العار التي لطّخت سجلّها من دون أن يتردّد صدى نفاقها؟ وكيف تجرؤ على الإشارة إلى الانتهاكات المُقترفة في الدول الأخرى، والانتهاكات التي ارتكبتها أفظع وأبشع؟ وكيف يُمكنها إعادة إحياء مصداقيتها الأخلاقية؟

واضحةٌ هي نقطة البداية إذ تتجلّى في الاعتراف بالحقيقة ومُحاسبة المرتكبين الرئيسين والتعويض على الضحايا، أمّا ما هو دون ذلك، فليس سوى محاولة بائسة للحفاظ على ما تبقى من ماء الوجه.


صورة: شخص يقرأ رسالة كتبها سجين بإنتظار موته ، نصها " الله ، اريد الرحمة منك لا من الانسان الطاغي" ، في احد عنابر الاعدام في سجن ابوغريب، الذي تم تنظيفه وتجديده من قبل كتيبة المهندسين الرابعة والتسعين ولواء المهندسين130 التابع للجيش الامريكي في أبوغريب 20 ميلا غرب بغداد، العراق، الجمعة الأول من اغسطس 2003. وقد شهد السجن تعذيب وإعدام الاف السجناء السياسين في في عهد صدام حسين. وهناك العديد من التقارير الصحفية حول وجود مقابر جماعية في حدود او بالقرب من السجن. ( صورة أ.ب/ مانيش سوارب)