العدالة الانتقالية في مصر: رؤية أحبطها القمع والاستقطاب

27/09/2015

بعد إسقاط دكتاتورية حسني مبارك في فبراير 2011، تطلع كثير من المصريين للتصدي لإرث الماضي من انتهاكات حقوق الإنسان، في طريق مطالبتهم ب"عيش. حرية. عدالة اجتماعية"، الشعار الذي تجمع تحته ملايين في التحرير وفي الميادين العامة في مختلف أنحاء البلاد. وأثمرت هذه الطاقة الشعبية المتدفقة عن مناقشات مفعمة بالحيوية عن مستقبل البلاد. في هذه الأجواء، نظم المركز الدولي للعدالة الانتقالية مؤتمراً إقليمياً في القاهرة عن العدالة الانتقالية في شهر أكتوبر من ذلك العام، ساد جلساته شعوراً عاماً بالتفاؤل. وفي ظل ذاك المناخ أتت المحاسبة الجنائية وإصلاح المؤسسات على رأس أولوليات النقاش السياسي. اليوم، تبدو تلك التطلعات والآمال كحلم بعيد المنال. بعد أربع سنوات من الاضطرابات السياسية، يبدو احتمال تحقيق عدالة انتقالية في مصر غامضاً.

حُدد أكتوبر موعداً لإجراء الانتخابات البرلمانية، وبعد ذلك من المرجح أن يضع الأعضاء المنتخبون قانون العدالة الانتقالية، على النحو الذي حدده الدستور الجديد. وعليه، تحدث المركز الدولي للعدالة الانتقالية مع ثلاثة نشطاء رائدين من مصر، لبحث عما إذا كان هناك بالفعل فرصة لتحقيق العدالة والإصلاح بمصر في المستقبل القريب في بيئة من الانتهاكات المستمرة، وقوانين قمعية جديدة، ومناخ سياسي مستقطب إلى حد بعيد.

على الرغم من أنه تم اعتقال مبارك وأعوانه تحت الضغوط الشعبية بعد فترة وجيزة من ثورة 2011، فشل النظام القضائي في مصر في إدانة أحد منهم بالمسؤولية الجنائية عن القتل وجرائم العنف الأخرى التي حدثت خلال الانتفاضة الشعبية. في حقيقة الأمر، لم تكن المحاسبة الجنائية عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتي ارتكبت طيلة فترة الديكتاتورية على جدول أعمال الدولة، حتى بعد انتخاب مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي رئيساً للبلاد في عام 2012.

ومع ذلك، بدا أن هناك فرصة لإنجاز بعض التقدم فيما يخص التدابير الأخرى مثل تقصي الحقيقة وجبر ضرر الضحايا. إلا أن العملية تقريباً أصيبت بالشلل عقب الاستياء الشعبي من مرسي وحكومته، والأحداث التي تلته. ففي يوليو 2013، تدخل الجيش مجبراً مرسي على التنحي، ومعييناً حكومة مؤقتة، بعد أن أخذت حشود ضخمة الشوارع مطالبة جماعة الإخوان المسلمين بالتخلي عن السلطة.

الإفلات من العقاب يؤجج عدم الثقة

تعثرت عملية العدالة الانتقالية ليس فقط بسبب البيئة السياسية المستقطبة التي تلت الإطاحة بمرسي، ولكن أيضاً لفداحة الانتهاكات التي ارتكبتها الحكومة الجديدة. على الأخص، عندما قُتل أكثر من 800 شخص من أنصار مرسي، والذين كانوا يعتصمون في ميدان رابعة، على يد قوات الشرطة والجيش— في أكبر حادثة قتل جماعي ترتكبها الدولة في التاريخ المصري الحديث. ومن المفارقات أن مجزرة مثل رابعة حدثت في الوقت الذي استحدثت فيه الحكومة المؤقتة وزارة العدالة الانتقالية—خطوة من حيث المبدأ تبدو إيجابية .

عماد مبارك، وهو محام يبلغ من العمر 38 والمدير التنفيذي لمؤسسة حرية الفكر والتعبير— وهي جمعية مقرها في القاهرة تعمل على الرصد والتوثيق، وتقديم الدعم القانوني مع تركيز خاص على الحق في المعرفة والحركة الطلابية — يرى أن جرائم مثل مجزرة رابعة أوغرت الكراهية والانقسام في المجتمع المصري، مسهمة في حالة من التوتر الغير مشجع للسعي لكشف الحقيقة والمحاسبة، أو حتى إصلاحات مؤسسية جذرية.

وكما يوضح كريم مدحت: "الإفلات المستمر من العقاب يقوض ثقة العامة في المؤسسات، والتي هي مهمة لنجاح أي عملية للعدالة الانتقالية." كل تلك الأفعال مثل تبرئة مبارك، أحكام الإعدام الجماعية لنحو 600 شخصاً، واعتقال المئات من النشطاء و18 صحفياً على الأقل، قد أسهمت جميعاً في فقدان الثقة في الحكومة.

يقول مدحت، وهو باحث في إصلاح القطاع الأمني في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية ، أن المصريين يشاهدون بشكل يومي الطرق المختلفة التي تتيح للقضاة وضباط الشرطة، وغيرهم من موظفي الدولة العمل في بيئة تامة من الإفلات من العقاب.

ويؤكد مدحت:" لقد وصلت المؤسسات القانونية إلى حالة من التردي اللامسبوق منذ صيف 2013."ومن ثم، تحتاج مصداقية هذه المؤسسات لإعادة بناء لتكتسب أي محاكمات أو عمليات تقصي حقائق مغزى لدى المصريين.

القوانين الأمنية تعوق نقاش العدالة الانتقالية

وبينما العنف الذي ترعاه الدولة، والذي جسد ذروته رابعة، قد أعاد المساءلة كمسألة ذات أهمية لعديد من المصريين، أتى عدد من القوانين القمعية التي مررها الرئيس عبد الفتاح السيسي ليحد من قدرة المصريين على التعبير عن مخاوفهم. فبعد انتخاب السيسي شنت الحكومة حملة على المنظمات الغير حكومية المستقلة، بدءاً من قانون منظم يمنح الحكومة الحق في حل أي مجموعة "تهدد الوحدة الوطنية". وجاء قانون مكافحة الإرهاب الجديد ليحكم قبضة الدولة على أي أصوات معارضة عن طريق وضع غرامات تصل ل 63000$ للصحفيين الذين لا يتقيدون بالرواية الرسمية بشأن عمليات الحكومة ضد الجماعات المسلحة.

يقول مدحت: "يمكن لقانون مكافحة الإرهاب أن يؤثر على العدالة الانتقالية، إذ أنه يقلص الحيز السياسي والقانوني الذي يسمح للمجتمع المدني والمنظمات الغير حكومية والنشطاء بالانخراط في العمل السياسي والحشد للمطالبة بالمحاسبة."

يلقي القمع الحكومي بظلال من الشك على الجهود البرلمانية المرتقبة لسن قانون العدالة الانتقالية— والذي هو خطوة حاسمة إن أراد المصريون تحقيق العدالة عن جرائم الماضي . بموجب الدستور المصري الذي كتب في 2013 ، فإنه يتوجب على البرلمان تمرير قانون ”يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا، وذلك وفقاً للمعايير الدولية." هذه الصيغة الغامضة للمادة تثير أسئلة عديدة عن المدة الزمنية، وطبيعة الانتهاكات التي سيتم التحقيق فيها، وكذا طبيعة الضحايا.

ولقد أعد وزير العدالة الانتقالية، إبراهيم الهنيدي، مشروع قانون للعدالة الانتقالية، ولكن عليه أن ينتظر لما بعد الانتخابات البرلمانية، ليسمع رأي البرلمان بشأنه. فليس معلوماً إن كان البرلمان الجديد سيقبل مشروع القانون كما هو عليه، أو سيبدأ من نقطة الصفر.

مدحت قلق جداً من من كل ما له علاقة بالعدالة الانتقالية ومن احتمالية أن يسن البرلمان القادم قانوناً. ففي ظل القيود المتواجدة في مصر على حرية التعبير، والاستقطاب السياسي العميق المسيطر، فإن أي قانون محتمل، على الأرجح، سيتضمن المساءلة الجنائية لطرف واحد فقط. ويوضح مدحت: "ولهذا السبب أظن أن الدعوة لإصدار قانون العدالة الانتقالية في هذا السياق ليست فقط غير مجدية، بل خطرة."

أية آمال ممكنة في المستقبل؟

أحمد راغب، وهو محام ومؤسس الجماعة الوطنية لحقوق الإنسان، أكثر تفائلاً ، فهو يعتقد أن انتخاب البرلمان الجديد ربما يكون فرصة لإعادة فتح النقاش حول العدالة الانتقالية في المجال العام، نظراً للصلاحيات الواسعة الممنوحة له بموجب الدستور.

ومع ذلك، يعترف راغب، الذي كان عضواً في لجنة تقصي الحقائق التي شكلها الرئيس مرسي في 2012 للتحقيق في الانتهاكات المختلفة التي ارتكبت خلال ثورة 2011، بأن البرلمان الجديد سيواجه تحديات كبيرة. ويأتي الغياب المتوقع للتعددية السياسية كمشكلة رئيسية.

يقول راغب: " إنه لمتوقع سيطرة مؤيدي السلطة الحالية على الغالبية العظمي من مقاعد مجلس النواب مما سيضعف تمثيله لكافة أطياف المجتمع وهو ما سيشكك فى أي تشريع يصدره هذا المجلس."

مستقبل العدالة الانتقالية في مصر، في أحسن الأحوال، في مأزق شديد. يرى مدحت أن هذا نابع من أن الصراع الذي بدأ عام 2011 بين الحكومة السلطوية والقوى الساعية للديمقراطية لم ينته بعد. كلاً من راغب و مبارك يؤيدان هذا الرأي— وهو أن المناخ الحالي ببساطة لا يوفر أرضاً خصبة للنقاش حول العدالة الانتقالية.

ومع ذلك، يبرز راغب ومبارك أهمية عمليات التوثيق. وفي واقع الأمر انطلقت العديد من مبادرات التوثيق المستقلة منذ ثورة 2011 لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في ظل كل نظام، ولعل أبرز هذه المبادرات ويكي ثورة.

عندما تصبح مصر مستعدة أخيراً للتصدي لإرث الماضي، ستكون هذه الوثائق لا تقدر بثمن.


الصورة: متظاهر في ميدان التحرير يحمل لافتة كتب عليها: "خبر عاجل. إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة (المصري)، هناك ثورة في مصر. هل تسمعني؟ حوّل." (بعض الحقوق محفوظة ليليان وجدي/Flickr)