التذكر حليف العدل ولكن ليس صديقا للسلام

22/05/2016

بقلم ديفيد ريف

قال الفيلسوف الأميركي جورج سانتيانا مقولته الشهيرة "أولئك الذين لا يستطيعون تذكر الماضي محكوم عليهم بتكراره". ويُنظر الآن على نطاق واسع إلى كلماته كحقيقة بينة لا تتطلب القليل من الإيضاح. داخل الحركة المعاصرة لحقوق الإنسان على وجه الخصوص بالشكل الذي أصبحت أمراً مسلما به - وحركة حقوق الإنسان بشكل عام - كتب ليس فقط منتقديها مثل شخصي وجون غراي بل أيضاً العديد من أنصارها من المفكرين الأكثر تميزا مثل نادين غورديمر ومايكل إيجناتايف عن كيف أنها في نواح كثير باتت القانون الأخلاقي العلماني الرئيسي في عصرنا.

لوضعها بشكل فظ: يتم النظر إلى الذاكرة والضمير ككتلة واحدة غير قابلة للتجزئة. على سبيل المثال، سُمي المتحف الذي أقيم في سانتياغو في شيلي لضحايا ديكتاتورية بينوشيه متحف الذاكرة وحقوق الإنسان. و يرى كثير من عَلاّمَة حقوق الإنسان أن الحفاظ على ذكرى الأحداث التاريخية مثل الهولوكوست حية قد لعب دورا رئيسيا في تدويل حقوق الإنسان.

في كتابي في مديح النسيان: الذاكرة التاريخية ومفارقاتها، حاولتُ إثبات، وبشكل صريح، أن جدلية أنه دائما بشكل أخلاقي وسياسي لا بد أن نتذكر لا تصمد في الواقع بشكل أخلاقي أو سياسي.

ولما كان غالب الظن أن معظم القراء والمشاركين في هذا النقاش سوف يختلفون مع هذا الادعاء (وسيشعر العديد بالإهانة بسببه)، ولتجنب قدر الإمكان ما يسميه الفرنسيون "حوار الطرشان" أريد أن أوضح في البداية ما لا أقوله. وأهم شيء لا أحاول القيام به هو قلب رأي سانتيانا رأساً على عقب وادعاء أن في الحقيقة أولئك الذين يتذكرون الماضي هم الذين محكوم عليهم بتكراره. إن ذلك لسخف. على العكس من ذلك، فمما لا شك فيه أن هناك العديد من الحالات التي لعب فيها التركيز على الذاكرة التاريخية دورا في تأمين كل الأهداف التي يعتقد نشطاء حقوق الإنسان أن الذاكرة التاريخية تساعد في القيام بها، وقبل كل شيء في تأمين الحقيقة لكل من المجتمعات بشكل عام والضحايا وأحبائهم الذين لهم كل الحق في معرفة حقيقة ما حدث، وفي تحصيل قدر من العدالة.

ما الذي أريد إثباته؟ بادئ ذي بدء، أريد الجدل، وأعترف أن هذا ليس مريحا ، بأنه في نهاية المطاف سوف يُنسي كل شئ مع اتخام الزمن، وأنه إذا كان هذا هو الحال، فربما من الأفضل النظر للتذكر كاستراتيجية بدلاً من واجب أخلاقي . ومن محض غرور الأحياء جعلنا نعتقد أن 1000 سنة أو أكثر من الآن، سوف يتذكر الناس الكثير (إن كان أي شيء على الإطلاق) عن جرائم وفظائع عصرنا، فضلا عما فعلناه تجاه أحداث وقعت منذ 1000 سنة أو أكثر.

وبعبارة أخرى، تحيا ذكريات أطول مما يحيا الأفراد، ولكنها ليست خالدة. وهذا هو السبب أن أحد أغراض في مديح النسيان هو "عدم تقديس" الذاكرة.

كان هدفي الثاني مواجهة الرأي القائل أن التذكر يخدم مصلحة السلام ويساعد في خلق ثقافة عامة ترفض الانتهاكات والتعذيب. مرة أخرى، أنا واثق من أن هناك صراعات ومجتمعات حيثما يمكن للذاكرة فعل ذلك. ولكن هناك أيضا صراعات ومجتمعات حيثما لا تخفف الذاكرة الفظائع بل تعمل كحافز لها.

مثال واضح على ذلك، وقد شهدته على الأرض كمراسل، هو الصراعات في يوغوسلافيا السابقة في التسعينات. والتي أُججت في نواح كثيرة بالذاكرة، كما في الاعتقاد السائد بين الصرب أنه بالقتال وذبح مسلمي البوسنة فإنهم ينتقمون لهزيمة صربيا في معركة كوسوفو في عام 1389 على يد العثمانيين.

ولكن الأمثلة كثيرة: تأمل في استخدام الذكرى التاريخية من الجانبين في الصراع العربي الإسرائيلي حتى يومنا هذا أو في ايرلندا الشمالية قبل اتفاق الجمعة العظيمة في عام 1998. وفي الحالة الايرلندية، فقد كتبت الناقدة والكاتبة الايرلندية الكبيرة إدنا لونجلي ذات مرة أن على الأيرلنديين إقامة تمثال لفقدان الذاكرة ثم نسيان أين وضعوه! ورغم غرابة تعبيرها، فإن لونجلي كانت تلفت النظر للحقيقة لا يمكن إنكارها وهي أن ذكريات أخطاء الماضي وعن الشهداء، جمهوريين أو وحدويين، ألهبت الصراع.

ما أريد الوصول إليه هنا (وكان بإمكاني استخدام أمثلة الشرق الأوسط بنفس السهولة) هو أنه إذا كان مبرر التذكر تجريبي، فحقيقة أن هناك أمثلة كثيرة جدا على القدرة التدميرية للذاكرة تدحض الادعاءات السياسية الواسعة المعتادة لفائدتها. للتأكيد، قد يقول أحد نصيري الواجب الأخلاقي للذاكرة أن هذه الانتهاكات تقع وبالتالي لا تُقوض قضيتهم الأخلاقية.

والمشكلة هي من الذي بشكل ما سيحدد عندما يسيء مجتمع استخدام الذاكرة، أوعندما يستخدمها بشكل جيد؟ فكما قد يوجد إرهابي قد يوجد آخر يقاتل من أجل التحرر، وبالتالي فإن حق شخص ما للتذكر قد يكون إساءة لآخر.

وأود أيضا أن أتحدى بقوة الادعاء الذي يقيمه كثير من الناشطين في مجال حقوق الإنسان أن محاولة إبقاء ذكرى المحرقة على قيد الحياة لم يكن فقط مهما أخلاقيا (وأنا لا أختلف مع هذا) ولكنه أظهر أيضا حكمة مقولة سانتيانا . وجهة نظري هي أن التاريخ يعلمنا الدرس الآخر، وهو أننا تعلمنا القليل (أو لا شيء) من الماضي، مهما كان تذكرنا جيدا (وكما أشار الراحل توني جدت أن أوروبا تواجه اليوم صعوبة أكثر من أي وقت مضى في الحفاظ على ذكرى المحرقة حية بين الشباب - مشكلة مستقلة خطيرة على نحو متزايد منفصلة ولكن ليست غير وثيقة الصلة).

ماذا فعلت ذكرى مقتل يهود أوروبا لمنع القتل الجماعي فيما كان يعرف آنذاك بباكستان الشرقية في عام 1971، أو المحرقة التي أقامها الخمير الحمر في كمبوديا بعد انتصارهم، أو إبادة التوتسي في رواندا في عام 1994؟ الجواب، بالطبع، لا شيء على الإطلاق.

وعندما أنظر حول العالم، وعندما أرى ما يبدو بالتأكيد دعوات مبررة للعودة للهمجية (ليس فقط من قبل داعش!)، حيث عالماً شهد العديد من الإنجازات التي لا شك فيها لحركة حقوق الإنسان على مدى نصف القرن الماضي التي تعثرت في مسارها أوذهبت لاتجاه عكسي، يبدو لي أن كل شخص لديه كل الحق في التساؤل عما إذا كان المطالبات الأخلاقية الضخمة أو السياسية الاجتماعية للتذكر مبررة؟ جوابي، بطبيعة الحال، هو أنها بكل تأكيد لا.


ديفيد ريف صحفي ومؤلف مقيم بنيويورك. قام بتغطية النزاعات في أفريقيا خلال التسعينات (رواندا، بوروندي، الكونغو، ليبيريا) والبلقان (البوسنة وكوسوفو)، وآسيا الوسطى. وقد كتب ريف على نطاق واسع حول العراق، ومؤخرا، حول أمريكا اللاتينية. وهو مؤلف ثمانية كتب، بما في ذلك المسلخ: البوسنة وفشل الغرب، وسرير لليلة: الإنسانية في أزمة. نشر العديد من المقالات في صحيفة نيويورك تايمز، لوس أنجلوس تايمز، واشنطن بوست، وول ستريت جورنال، لوموند، البايس، الجمهورية الجديدة، الشؤون العالمية، هاربرز، المحيط الأطلسي الشهرية، فورين بوليسي، ذا نيشن وغيرها من المطبوعات. نشر كتابه عار الجوع: الأغذية والعدل، والمال في القرن ال21 ال بواسطة دار سايمون اند شوستر في أكتوبر عام ٢٠١٥. كتاب ريف الأخير في مديح النسيان: سيتم نشره هذا الشهر من قبل مطبعة جامعة ييل.

الصورة: متحف الذاكرة وحقوق الإنسان، سانتياغو، شيلي. (Márcio Cabral de Moura/Flickr)