المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة يدعو إلى اعتمادِ الشّفافيّة في اختيارِ أعضاء الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا في لبنان

16/09/2019

نور البجّاني نورالدين

بيروت، 16 أيلول/ سبتمبر 2019- بعدَ مرورِ تسعة أشهرٍ على إقرارِ القانون رقم 105 المُتعلّق بالمفقودين والمخفيين قسرًا في لبنان، اقترحَ وزيرُ العدل اللّبناني أسماءَ عشرةِ أفرادٍ، بمن فيهم أربعُ نساء، ليُشكِّلُوا الهيئة الوطنيّة للمفقودين والمخفيين قسرًا. وقد رُفعَت هذه الأسماء إلى مجلس الوزراء للموافقة عليها، وذلكَ عملًا بما نصّت عليه المادّة العاشرة من القانون الجديد. وقد حظيت هذه الخطوةُ بترحيبٍ واسعٍ مِن المجتمع المدنيّ والكثيرِ من عائلات المفقودين والمخفيينَ قسرًا الّتي أعربت عن أملها بأن يأتي تنفيذ هذا القانون أخيرًا بأجوبةٍ شافيةٍ عن مصائر ذويها.

غير أنَّ الخبرةَ الطّويلة الّتي اكتسبَها المركز الدّولي للعدالة الانتقاليّة من عمله حَولَ العالم، تُبيِّنُ لنا أنَّ عدمَ الإعلان عن لائحة الأسماء المُقترحة يُشكِّلُ مدعاةَ قلقٍ. وعليه، فمن شأنِ التمتّعِ بالشّفافيّة والانفتاح في عمليّة اختيارِ الأسماءِ وفي الكشفِ عنها أن يُبدِّدَ أيَّ شكوكٍ في استقلالِ الأسماءِ المُقترحة وفي أهليّتها كما من شأنه أن يُبدِي عن حُسنِ نيّةٍ مِنَ البداية.

وللأسفِ، في حين تنصُّ المادّة 11 على الشّروط الواجب استيفاؤها في اختيارِ الأعضاء (وتشملُ على سبيل الذّكر لا الحصر السيرة الأخلاقية العالية والنزاهة والاستقلال والخبرة)، لا يشترطُ القانون رقم 105 اتّباعَ عمليّةٍ تكونُ شفافة وعامّة وشموليّة، علمًا أنّها تُعدُّ ضروريّةً من أجلِ إشراكِ الأطراف المعنيّة إشراكًا مُجديًا.

وكانَ غيابُ شروطٍ مُماثلةٍ تُحدّدُ عمليّة اختيار الأعضاء قد أثار الجدل في الماضي. ففي العام 2018، واجهَ اختيارُ بعضِ أعضاءِ الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان انتقادات نتيجة الامتناعِ عن تنفيذِ طلبِ عددٍ من المُنظّمات الّذي قضَى بالإعلانِ عن كاملِ لائحة المُرشّحينَ وعن مؤهلاتهم. وقد رأت المُنظّمات في ذلكَ خُطوةً تُزعزعُ أركانَ العمليّة بأكملها، وهو ما يُعزَى، في جزءٍ منه، إلى أنَّ أحدًا لا يعرفُ مُسبقًا إن كانَ المُرشحّونَ يستوفونَ تمامًا شروطَ الأهلية الّتي نصّ عليها القانون.

ومن شأنِ نشرِ لائحة الأسماءِ قبلَ اعتمادها نهائيًّا أن يُساعدَ على اجتيازِ أشواطٍ طويلة في سبيلِ اكتسابِ ثقة الرّأي العام وتحديدِ مسارِ الهيئة. ويُمكنُ الشّكوكُ الّتي تُثارُ حولَ مدى مُلاءمةِ عضوٍ واحدٍ من أعضاءِ الهيئة أن تُسبِّبَ مشاكلَ جسيمة وتشوِّهَ سُمعة الهيئة وتنالَ من استقلاليّتها، وذلكَ على غرارِ مَا حصلَ في كينيا. فبعدَ مضيّ أشهرٍ قليلة على بدءِ لجنة الحقيقة والعدالة والمُصالحة عمليّاتها، اتّهمَت منظّماتٌ من المجتمع المدني وجهاتٌ أخرى رئيسَ اللّجنةِ بالضلوعِ في عمليّاتٍ غير شرعية مُحتملة لبيعِ الأراضي وبانتهاكات لحقوقِ الإنسان كانت قيدَ التّحقيقِ داخلِ اللّجنة نفسها. وقد مُورِسَت على الرّئيس ضغوطاتٌ، أجبرته، في نهاية المطاف، على التّنحي عن منصبه، غير أنَّ الأخبار المُسرّبة والمُتناقلة أفضَت إلى أزمةٍ في مصداقية لجنة الحقيقة والعدالة والمصالحة الكينيّة. وقد ترتّبَ عن ذلكَ نزاعٌ واضطرابٌ داخليّ شلَّا عملَ اللّجنة لمدّة فاقت السّنة. ولا تَدَعُ الأمثلةُ الدّامغة هذه مجالًا للشّكِّ في أنَّ اختيارَ أعضاءَ يتمتّعونَ بسُمعةٍ حسنة وبسيرةٍ لا تشوبها شائبة، هو شرطٌ أساسيّ لضمانِ هيئةٍ ناجحة.

صحيحٌ أنَّ إرساءَ معاييرَ بيِّنَةٍ ووضعَ عمليّاتِ اختيارٍ مُتقنة التّصميم هما أمرانِ في مُنتهَى الأهميّة، إلّا أنّهما لا يشكّلانِ ضمانةً بأن تكون عمليّة الاختيار العامّة سلسةً وناجحة، لا سيّما في حالِ نُفِّذَت على عجلٍ ومن دون القيام بتوعيةٍ عامّة كافية ومن دون إجراء استشاراتٍ مُجدية مع العائلات والمجتمع المدني وغيرهما من الأطراف المعنية.

وقد كانَ ذلكَ حالُ تونس حيثُ اختارَ المجلس الوطني التّأسيسي خمسةَ عشرَ عضوًا شكّلُوا هيئة الحقيقة والكرامة، وذلكَ على نحوٍ يمتثلُ، تقنيًا، للعمليّة المنصوص عليها قانونًا، لكنّهُ جاءَ، في الواقع، على عجلٍ وغابَت عنهُ الشّفافيّة. هذا وتعدّدت المشاكلُ وتشعّبت. فقد حُصِرَ تقديم الطّلباتِ بمُهلةٍ زمنيّة ضيّقة للغاية وافتقرَت لجنة الاختيار المبادِئَ التّوجيهيّة الواضحة والبيّنة، مِمّا أدّى إلى بِدْءِ سَيرِ العمليّة بِخُطًى ناقصة. وفي الواقع، كانت قد نُشرَت لائحةٌ ضمّت أسماءَ 288 مرشّحًا وفُتِحَ المجالُ أمامَ النّاس لإبداءِ الرّأي فيها. إلّا أنَّ الخُطوة تلك جاءَت في ظلِّ جوٍّ افتقرَ التّوعية العامّة الكافية وتعاظمَت فيه خيبة الأمل بين أبناء الشّعب التّونسيّ مِن العمليّة برمّتها، فكانَت نتيجة ذلكَ أن لم تلقَ اللجنة أي اعتراضٍ يُذكر. ورضخَ المجلس الوطني التّأسيسيّ للضغوطات السّياسيّة، فقدّمَ لائحةً مُختصرة ضمّت خمسة عشرَ مُرشّحًا. وقد واجهَ سبعةٌ من هؤلاء المرشّحين موجةً عارمة من الانتقادات الّتي أتت أغلبها بسبب فقدانهم الاستقلاليّة المطلوبة.

ليسَ بالضّرورةِ أن تُشكِّلَ عمليّات الاختيار المُجدية عبئًا إداريًّا أو أن تتطلّبَ كمًّا هائلًا من الوقت. فعلى سبيل المثال، احتاجَت لجنةُ الحقيقة والمُصالحة في جنوب أفريقيا إلى ثلاثة أشهرٍ وحسب، توصّلت في ختامها إلى القرارِ النّهائيّ. وقد كانت تلكَ اللجنةُ هي الأولَى من نوعها التي تُنشِئُ فريقًا مُستقلًا يُناطُ بهِ اختيار أعضاء اللّجنة وإجراء المُقابلات العلنيّة مع المُرشّحين. وبُغيةَ ضمانِ إنشاءِ فريقٍ متوازنٍ وعادلٍ، وُزِّعَت العُضويّةُ فيه بالتّساوي على الأفرقاء السّياسيّة والمُجتمع المدني. هذا وقد مُنِحَ النّاسُ أيضًا فرصةً لِتسمية المُرشّحين. وعليه، نُشِرَت اللّائحة الأوّليّة التي تضمّنت أكثرَ من 300 اسمٍ، وعُمِّمَت على مُختلف الوسائل الإعلاميّة، ثُمَّ اختُزِلَت بلائحةٍ مؤلّفةٍ من 50 اسمًا نُشِرَت جميعها في الصّحفِ. بعد ذلكَ، أُجرِيَت مُقابلاتٌ علنيّة مع الأسماءِ المُقترحة، بُغيةَ إفساحِ المجالِ أمامَ النّاسِ لإبداءِ الرّأي فيها. وفي نهاية المطاف، أوصَى الفريقُ بلائحةٍ ضمّت 25 اسمًا، ثُمَّ رفعها إلى الرّئيس مانديلا الّذي اختارَ منها 17 عضوًا وعيَّنَ اثنَيْنِ آخرَيْن من خارجها، وذلكَ بُغية إقامة التّوازن الجغرافيّ والسّياسيّ اللّازم.

ففي مُحادثات السّلامِ كَما في السّياقات المشحونة بالانقسامات، تُعدُّ الاستقلاليّة والشّفافيّة ومُشاركة الناس في عمليّة اختيارِ الأعضاء القاعدةَ الأساسيّة التي تستمدُّ منها اللّجانُ شرعيتَها ومصداقيّتها في المُستقبل. ويُعتبرُ مثالُ كولومبيا خيرَ مثالٍ مُفيدٍ ومُستجدٍّ في هذا الصّدد. فقد وقّعت الحكومة الكولومبية والقوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك) اتفاقَ سلامٍ قضى بإنشاءِ لجنةٍ يُناطُ بها اختيار كلٍّ من أعضاءِ لجنة الحقيقة والمُصالحة، ورئيس لجنة البحث عن المفقودين والمخفيين وقضاة الحكم وقضاة التّحقيق في المحكمة الخاصة للسلام على حدٍّ سواء. وقد تألّفت اللّجنةُ من خمسة خبراء مُستقلّين (ثلاثة منهم دوليّون واثنان كولومبيان) عيّنتهم خمسُ مُنظّماتٍ، بما فيها مُنظمة الأمم المتحدة والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمركز الدّولي للعدالة الانتقالية. وقد وضعت اللّجنةُ عمليّةً شفافة وتشاركيّة خوّلت الضّحايا ومنظمات المُجتمع المدني تقديمَ أسماءِ مُرشّحين، وتضمّنت عرضًا عن مؤهلاتِ المُرشّحينَ التي فُسِحَ المجالُ أمام النّاس في إبداءِ الرّأي فيها، وقَضَت ببثِّ المُقابلات النّهائية مع المُرشّحين بثًّا مُباشرًا. وكان في نهاية المطاف، أن استجابت العمليّة لطلباتِ المُجتمع الكولومبي المُنادية بالشّفافية والمُشاركة.

وفي لبنان، لا يزالُ الوقتُ يسمح بتحسين مسار عمليّة التّعيين الجارية حاليًّا بهدفِ جعلها عامّة وشفافة واستشاريّة وكذلكَ بهدفِ ضمانِ تمثيل أعضاء الهيئة مُختلف الخلفيات والآراءِ تمثيلًا وافيًا. لكن، لا بُدَّ من القيام بذلك فورًا. فقد يُعتبرُ الشّرط الّذي نصّت عليه المادة 10 من القانون الجديد ويقضي بأن تقومَ ثلاث جمعيات لبنانيّة بتزكيةِ كلٍّ من المُرشّحين الأربعة الذين يُمثّلونَ المُجتمع المدني، شرطًا جيّدًا لكنّه غير كافٍ بحدّ ذاته. وعليه، فإنَّ من شأنِ نشرِ أسماء المرشّحين العشرة فورًا ومنحِ النّاس فرصةَ إبداء الرّأي فيها وطرحَ التّساؤلاتِ حولها قبلَ إجراء التّعييناتِ النّهائيّة، أن يُساهما في بناءِ الثّقة العامّة بالهيئة وأن يُبدِيَا التزامَ الحكومة اللّبنانية بروحِ القانون.

إنَّ الشّفافيّة ومُشاركةَ الضّحايا والمُجتمع المدني الفاعلة في تعيين أعضاء الهيئة هما أمران في غاية الأهميّة لضمانِ هيئةٍ ناجحة ومُستقلة تقدِرُ على التّصدي لماضي لُبنانَ العنيف بصدقٍ ونزاهةٍ وصلابة.


الصورة: أقارب المفقودين والمخفيين خلال الحرب وأصدقاؤهم يحملون صورَ أحبائهم خلال اجتماع عقد في نقابة الصحفيين في بيروت في 9 كانون الأول/ديسمبر 2005، للدعوة إلى البحث في كافة أنحاء البلاد عن جميع المقابر الجماعية التي يعود تاريخها إلى الحرب الأهلية ما بين العامين 1975 و 1990. وكالة فرانس برس / رمزي حيدر