بعد ثلاث سنوات من الثورة، التونسيون يسعون إلى العدالة عبر جبر الضرر الجماعي والتنمية

17/12/2013

قبل ثلاثة أعوام، أشعل بائع متجول شاب النار في نفسه في جنوب تونس، كتعبير عن اليأس الاقتصادي وكاحتجاجٍ سياسي. إلا إنه لم يكن يعلم أن عمله هذا سيطلق مظاهرات هائلة في جميع أنحاء البلد، وأن اسمه، محمد بوعزيزي، سيدخل التاريخ إلى جانب نهاية حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي امتد 23 عاماً.

بالأمس، مررت البلاد قانون العدالة الانتقالية التاريخي، والذي يضع عدد من العمليات للبحث عن الحقيقة والمحاسبة وجبر الضرر الناتج عن المصاعب وجرائم الماضي حيز التنفيذ.

يحدد قانون العدالة الانتقالية نهجاً شاملاً لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في الماضي. ويقوم بإنشاء لجنة الحقيقة والكرامة ويعالج التعويضات والمحاسبة والإصلاح المؤسساتي وتطهير الحكومة والأجهزة والمصالحة الوطنية. كما أنه يقوم بانشاء صندوق الكرامة والتأهيل لضحايا الطغيان" (المادة 41) وغرف خاصة مع قضاة مدربين على التعامل مع قضايا انتهاكات حقوق الإنسان. الانتهاكات الحاصلة ضد النساء والأطفال هي في صميم القضايا التي ستتناولها لجنة الحقيقة والكرامة .

كخطوة رئيسية للبلاد، يمكن لهذا القانون الجديد أن يلعب دوراً هاماً بمعالجة المصاعب الاقتصادية التي تعاني منها المنطقة الجنوبية التي ينحدر منها بوعزيزي. فمعدل البطالة في جنوب تونس يصل إلى 30 بالمائة، كما تعاني هذه المنطقة من تهميش كبير من سائر البلد.

وإذ ستنهمك تونس في عملية تصميم إجراءات العدالة الانتقالية التي تهدف إلى الكشف عن الحقيقة وتحقيق المحاسبة والعدالة بشأن جرائم الماضي، فإن الأسباب الاقتصادية للثورة أبزرت الدعوة لأن تعمل الدولة التونسية على تضمين الشكاوى الاقتصادية ضمن نطاق انتهاكات حقوق الإنسان التي يجري التحقيق بشأنها والتي تتضمن الإساءات المتعلقة بالسلامة البدنية (مثل القتل، والتعذيب، والعنف ضد المتظاهرين).

لا تقتصر هذه الشكاوى على فترة حكم بن علي، فهي تمتد إلى عقود سبقت صعوده إلى السلطة. لذا فإن الضحايا يتساءلون (وخصوصاً من المنطقة الجنوبية في تونس): كيف يمكن لإجراءات العدالة الانتقالية، من قبيل برامج جبر الضرر، أن تساعد تونس على معالجة الإهمال الاقتصادي والاجتماعي للمنطقة وعلى امتداد أجيال متعاقبة؟    
كيف يمكن لإجراءات العدالة الانتقالية، من قبيل برامج جبر الضرر، أن تساعد تونس على معالجة الإهمال الاقتصادي والاجتماعي للمنطقة وعلى امتداد أجيال متعاقبة؟

كان هذا السؤال موضوعاً لورشتي عمل استضافهما المركز الدولي للعدالة الانتقالية في جنوب تونس بهدف تعزيز الحوار والتعاون والتنسيق بين الجهات الفاعلة المتنوعة في تونس خلال السياق الانتقالي.

جرت ورشتا العمل بالتنسيق مع منظمة الضحايا التونسية ’العدالة ورد الاعتبار‘، وقد شارك فيهما عدد من الجماعات الناشطة في مدن تونس العاصمة وتوزر وتطاوين، بهدف تقييم التقدم الذي تحقق بشأن جبر الضرر الملحّ ومعالجة التحديات الرئيسية التي تواجه السياسات المستقبلية المعنية بجبر الضرر والانهماك في حوارات بناءة حول الأشكال المختلفة لجبر الضرر التي قد تكون ذات صلة بالنسبة للبلد.

تعريف جبر الضرر الجماعي وتصميمه

تقليدياً، يُمنح جبر الضرر للأفراد لتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم، وكانت هذه الأضرار تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان للأفراد، مثل التعذيب والاحتجاز والقتل والاختفاء القسري والعنف الجنسي.

ومع ذلك، بدأت الجهود تتركز في السنوات الأخيرة على معالجة الأضرار الجماعية على نحو أفضل، حيث يكون مجتمع محلي معين أو فئة معينة من السكان قد استُهدف بالقمع أو عانى من التهميش.

وهذا هو النمط الذي تعرضت له المجتمعات المحلية في جنوب تونس، حيث عقدت ورشتا العمل اللتان نظمهما المركز الدولي للعدالة الانتقالية.

قدّم التدريبات أثناء ورشتي العمل مدير برنامج جبر الضرر في المركز الدولي للعدالة الانتقالية، روبن كارانزا، الذي شدد على أن من المسائل المركزية لإقامة برامج فعالة لجبر الضرر الجماعي هي المشاركة المجتمعية القوية.

وقال كارانزا، "إن مساهمة المجتمع المدني ومشاركته هي أساس التصميم الفعال لجبر الضرر الجماعي والمجتمعي".

وثمة العديد من الخبرات من مناطق أخرى من العالم حول جبر الضرر الجماعي، وهي توفر دروساً وأمثلة مهمة للجهات التي تعكف حالياً على وضع برامج لجبر الضرر الجماعي. وقدّم كارانزا وخبراء آخرون من المركز الدولي للعدالة الانتقالية، بمن فيهم كريستيان كوريا، وشيزين سعيد، وريم القنطري، استعراضاً للبرامج والنُهج التي اتّبعتها البلدان الأخرى.

تضمنت التجربة في بيرو، والتي بدأت بتنفيذ جبر ضرر جماعي في الأقاليم التي عانت من أشد تأثيرات العنف مع جماعة الدرب المضيء (Sendero Luminoso)، مشاركة مباشرة من ممثلين الضحايا في عملية التسجيل ووضع السياسات التي قادت إلى برنامج التحويلات النقدية التي استهدفت الارتقاء بأوضاع المجتمعات المحلية الفقيرة. نفذت المغرب أيضاً برامج جبر ضرر في 11 منطقة بيّنت لجنة الحقيقة أنها المناطق التي عانت من أكبر تهميش أثناء حكم الملك السابق. كما طبّق إقليم آتشه في إندونيسيا برنامج جبر ضرر مجتمعي سعى إلى ربط التمويل الإنمائي المخصص لإصلاح الهياكل الأساسية التي تضررت أثناء الحرب في آتشه بالانتهاكات التي ارتُكبت ضد المجتمعات المحلية التي سعت للاستقلال عن إندونيسيا.

جبر الضرر الجماعي والتنمية

عادة ما تبرز في أعقاب النزاعات أو القمع، رابطة بديهية بين برامج جبر الضرر وبين التنمية، خصوصاً في المناطق التي يتفشى فيها الفقر، والتي تكون فيها المصاعب الاقتصادية في مركز المظالم التي يعرب عنها المجتمع المحلي.

وثمة أمثلة كثيرة في سياق جنوب تونس توضح الرابط بين التنمية وجبر الضرر، وخصوصاً، الضحايا الذين حددوا التمييز السياسي الذي واجهوه في الوصول إلى خدمات العناية الصحية الأساسية. فقد أشاروا إلى الحاجة لإقامة مستشفيات ومراكز علاج توفر عناية صحية متخصصة لضحايا التعذيب، وللأطفال الذين عانوا من جراء احتجاز أهاليهم. وقال شادي، وهو شاب يبلغ من العمر 23 عاماً وأصيب أثناء التظاهرات، إنه "لا يوجد مستشفى متخصص يمكنه توفير العلاج للذين أصيبوا بالرصاص"، وأضاف "اضطررت لإجراء عملية جراحية أخرى من أجل إصلاح الخطأ الطبي الذي حدث خلال العملية الأولى".

وأشار آخرون إلى الحاجة إلى إقامة هياكل أساسية، والتي يمكن أن تعتبر أيضاً كأعمال لتخليد الذكرى. فعلى سبيل المثال، أشار بعض المشاركين أن إنشاء مدرسة يمكن أن يخدم المجتمع المحلي، ويمكنه أيضاً تخليد ذكرى الضحايا. وأشارت كلثوم، وهي محتجزة سابقة أثناء حكم بن علي، إلى الأضرار غير الملموسة التي لحقت بها وبطفلها بسبب الاحتجاز، وقالت "إن تخليد ذكرى الضحايا سيساعدنا على الشعور بالفخر داخل مجتمعاتنا وأن نقاوم الوصم الاجتماعي الذي يرافقنا كسجناء سابقين"    
"إن تخليد ذكرى الضحايا سيساعدنا على الشعور بالفخر داخل مجتمعاتنا وأن نقاوم الوصم الاجتماعي الذي يرافقنا كسجناء سابقين"

ومن أجل تحقيق هذا النوع من الإدماج للمنطقة الجنوبية من تونس، أشار المشاركون من مكتب تنمية الجنوب والاتحاد العام التونسي للشغل إلى الحاجة إلى إشراك المؤسسات الاقتصادية المعنية بالتهميش الاجتماعي والاقتصادي. وقد تمكّن ممثلو الاتحاد العام التونسي للشغل من توسيع أنشطتهم الإنمائية، وأجابوا عن أسئلة المشاركين بشأن الربط بين جبر الضرر والتنمية.

ومع ذلك، فإن جبر الضرر هو مسؤولية الدولة، ويجب أن يأتي الإقرار بالخسارة والتهميش والظلم من الدولة نفسها، وإلا فإن المجتمع المحلي لن يشعر بالتأثير الإصلاحي لإجراءات جبر الضرر. وبالتالي ينبغي أن تكون الخطوة الثانية هي إجراء حوار مع الحكومة وإشراكها، فمن غير مشاركة الحكومة سيكون من الصعب على الضحايا في جنوب تونس وعلى منظمات المجتمع المدني التي تعمل هناك أن ينجزوا نشاطات ملموسة.

وأخيراً، لا يمكن لجبر الضرر أن يكون إجابة شافية عن جميع المظالم التي عانى منها التونسيون في الجنوب، ويدرس المركز الدولي للعدالة الانتقالية بالتعاون مع شركائه أمثلة حول إدماج إجراءات جبر الضرر في البرامج الإنمائية في البلدان. وقال روبن كارانزا، "نحن نريد أن نرى العدالة الانتقالية تتحقق، ولكننا نريد أن نتمكن أيضاً من تطبيق العدالة الانتقالية بطريقة قابلة للتنفيذ. وبهذا الأسلوب، فإن قابلية تنفيذ إجراءات الإدماج لن تكون الحصيلة الوحيدة، بل أيضاً ستساعد على رسم مثال ناجح لمثل هذه البرامج المدمجة، مما يتيح للبلدان الأخرى التي تواجه الصعوبات ذاتها أن تستلهمه".


الصورة: يتحاور المشاركون حول سبل جبر الضرر من خلال التنمية، توزر، جنوب تونس، ديسمبر 2013 (محمد طاطا)

يمكنكم قراءة المزيد حول جبر الضرر من خلال هذه المقابلة مع روبن كارنزا وكريستيان كوريا