لِمَ الإقرار بالإبادة الجماعية الأرمنية؟

05/05/2015

بقلم ديفيد تولبرت - رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية

يُحتفل في 24 أبريل بإحياء الذكرى السنوية المئوية للإبادة الجماعية التي ارتكبتها الحكومة العثمانية ضد سكانها من الأقلية الأرمنية في وطنهم التاريخي، الذي يقع في تركيا الحالية. وتمثّل الأنشطة الجارية بهذه المناسبة فرصة سانحة، ليس لإحياء ذكرى 1.5 مليون من الضحايا فحسب، بل أيضا لإدراك – ومواجهة - إنكار الحكومة التركية المستمر لتلك الفظائع.

فالإنكار، وهو خط الدفاع الأخير لأولئك الذين يرتكبون الإبادة الجماعية، يمثل ازدراءً للضحايا ومجتمعاتهم، ويرسي أساسا من الأكاذيب لمستقبل يُرجّح أن يتسم بمزيد من النزاع والقمع. ولذا يجب على المرء أن يسأل: هل الإقرار بالإبادة الجماعية الأرمنية يصب في مصلحة تركيا على المدى الطويل؟

لقد كشف الدارسون "نموذجاً نمطياً للإنكار" يستخدمه مرتكبو هذه الجرائم للإبقاء على الوضع الراهن. فهم، في المقام الأول، لا يقرّون بوقوع الإبادة الجماعية. وبدلا من ذلك، فإنهم يحرّفون القصة لتصوير الضحايا بمظهر الجناة. ثم يصرّون على الزعم بأن العدد الأكبر من الضحايا كان من المجموعة التي ينتمي إليها مرتكبوا الإبادة الجماعية، ويقللون كذلك من العدد الإجمالي للضحايا. أما الوثائق الرسمية التي يمكن أن تكذّب هذه الرواية للأحداث فإنها تُتلف.

واستنادا إلى هذه القصة الجديدة، يُحاجج الناكرون قائلين إن الجريمة لا ينطبق عليها التعريف القانوني للإبادة الجماعية المحدد في الاتفاقيات الدولية. ثم يمارسون الضغوط على دول أخرى لتقبل بهذه القصة المنقحة ولتمتنع عن تسمية الجريمة "إبادة جماعية". فالمطلوب هو التقليل من هول الجريمة بجميع الطرق الممكنة.

لقد ظلت الحكومة التركية تتبع هذا النموذج على مرّ قرن من الزمان. ولكن يوجد مسار آخر يمكن أن تتبعه تركيا، وهو مسار انتهجته قبلها بلدان تحمل أعباءً تاريخية ليست أقل ثقلاً: إنهاء سياسة الإنكار، والسير على نهج الإقرار، وبالتالي فتح الطريق نحو المصالحة والتقدم.    
" يوجد مسار آخر يمكن أن تتبعه تركيا، وهو مسار انتهجته قبلها بلدان تحمل أعباءً تاريخية ليست أقل ثقلاً”
وبالنسبة لتركيا، ستكون الخطوة الأولى أن يقدم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الطائفة الأرمنية اعتذارا عن الإبادة الجماعية. ويجب أن يكون الاعتذار مباشراً وذا مصداقية، على عكس تصريحه الأخير الذي أنكر فيه فعليا وقوع الإبادة الجماعية حين أشار بصورة مبهمة إلى "أحداث عام 1915" وقلل من شأن معاناة الأرمن حين اعتبرها مساوية لما عانى منه "كل مواطن آخر في الإمبراطورية العثمانية "في ذلك الوقت. ويتعيّن على أردوغان أن يقرّ علناً بأن الإبادة الجماعية قد ارتُكبت، وأن يعترف بأن الدولة لم تكفل حماية مواطنيها، وأن يقدّم وعداً بأن مثل هذه الفظائع لن تحدث مرة أخرى.

وثمة تدبير آخر بالغ الأهمية يتمثل في إعداد سجل تاريخي صادق ودقيق لما حدث للأرمن. وتحقيقا لهذه الغاية، ينبغي إنشاء لجنة مستقلة تضم مزيجاً من الخبراء الوطنيين والدوليين ليواصلوا العمل استناداً إلى نتائج عمل اللجنة غير الرسمية المعنية بالمصالحة التركية الأرمنية. ويمكن العثور على أمثلة مناسبة حديثة عن مثل هذه اللجان الرسمية في السلفادور وغواتيمالا.

ويجب على تركيا جبر الضرر الذي لـَحِقَ بالأرمن، الذين أثْرَتْ ممتلكاتهم المنهوبة الدولة التركية الحديثة. وينبغي للمبادرات المتخذة أن تهدف إلى تلبية الاحتياجات المادية وأن تعوض، على الأقل رمزيا، الخسائر التي مني بها الأرمن داخل تركيا وخارجها. ويمكن أن تؤدي الصُروح والنصب التذكارية غرضا هاما يتمثل في توفير مصدر تذكير دائم ليس بالضحايا فحسب، بل أيضا بوعد الدولة بألا تسمح أبدا بتكرار وقوع مثل تلك الفظائع مرة أخرى.

وفي بلد مثل تركيا، حيث يُعتبر مرتكبو الإبادة الجماعية الأرمنية من عظماء الأبطال الوطنيين، فإن كل هذا لن يساعد فقط في تخفيف أسى الأرمن وحزنهم، بل سيوجه أيضا رسالة لمواطني تركيا، لا سيما لأقلياتها الكثيرة، مفادها أن الدولة تأخذ على محمل الجد حقوق الإنسان وسيادة القانون. وهذه المسألة ليست قليلة الأهمية: فتركيا تتبوأ حاليا مركزاً مثيراً للشبهات بوصفها الدولة التي أصدرت ضدها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أكبر عدد من أحكام الإدانة ذات الصلة بانتهاكات حقوق الإنسان.

ولكن التدابير الرمزية، رغم أهميتها، لن تكفي لإحداث تقدم حقيقي. فالحكومة التركية يجب أن تثبت أنها ملتزمة بضمان أن قوانينها ومؤسساتها تحمي الحقوق الإنسانية لجميع مواطنيها حماية فعالة. وهي، إن فعلت ذلك، ستحسّن مكانتها في أوروبا وخارجها.

إن لتركيا دوراً هاماً تؤديه في منطقتها وفي العالم – وهو دور يعاني من استمرارها في إنكار الإبادة الجماعية الأرمنية. فالنهج المراوغ الذي تنتهجه تركيا حيال الإبادة الجماعية لا يتسق مع جهودها الرامية إلى ترسيخ سمعتها بوصفها شريكاً صادقاً يمكن الوثوق به.

وسيكون في وسع تركيا، من خلال الإقرار بالإبادة الجماعية الأرمنية، أن تثبت أنها دولة ديمقراطية ناضجة وأن تعزز مكانتها بوصفها قوة إقليمية مشروعة. وسيعزز ذلك الاستقرار الجيوسياسي في المنطقة من خلال توطيد قدرة تركيا على أداء دور الوساطة ودعم المبادرات في السياقات الإقليمية التي يسود فيها الإفلات من العقاب، كما هو الحال في إسرائيل وفلسطين وسورية والسودان.    
" إن لتركيا دوراً هاماً تؤديه في منطقتها وفي العالم – وهو دور يعاني من استمرارها في إنكار الإبادة الجماعية الأرمنية”

ومن الجليّ أن فوائد الإقرار بالإبادة الجماعية الأرمنية ستكون بعيدة المدى. ولكن السبب الأكثر أهمية قد يتمثل في مخاطر الإبقاء على الوضع الراهن. فإنكار الإبادة الجماعية، بحسب أقوال عالم النفس إسرائيل شارني، يسمح "بظهور أشكال جديدة من العنف المتسم بمقومات الإبادة الجماعية تجاه شعوب أخرى في المستقبل."

ليس من الضروري أن يحذو أردوغان حذو فيلي برانت في بادرة طلب الغفران الشهيرة في وارسو، حين جثا مستشار ألمانيا آنذاك على ركبتيه أمام النصب التذكاري للضحايا اليهود الذي سقطوا خلال انتفاضة الغيتو اليهودي في وارسو. ولكن عليه، بطريقته الخاصة، أن يعتذر بصدق باسم الدولة التركية وأن يعلن بشكل مُقنِع أنّ ما حدث "لن يتكرر أبدا".


نشرت المقالة باللغة الإنجليزية على موقع Project Syndicate

الصورة: النصب التذكاري لضحايا الإبادة الجماعية الأرمينية "دزيدزيرناكابيرت" في يريفان، أرمينيا. (z@doune)