ثلاث سنوات مرّت على الثورة وتونس تسعى إلى معالجة آثار الماضي العسير

15/01/2014

بقلم ديفيد تولبرت، رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية

في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات، فرّ زين العابدين بن علي من تونس بعد مواجهة ثورة شعبيّة عارمة ضدّ حكمه الاستبداديّ الذي اتّسم بالقمعيّة وتفشّي الفساد على نطاق واسع. وقد كان هذا تتويجاً لثورة أشعلتها تضحية محمّد البوعزيزي، البائع المتجول من منطقة سيدي بوزيد الذي أزهق حياته في فعل بائس يهدف إلى الاحتجاج على الظلم والإذلال اللذَين تعرّض لهما على أيدي الشرطة المحلّيّة. أطلقت الثورة التونسيّة موجةً من الاحتجاجات الشعبيّة في المنطقة التي شهدت لاحقاً سقوط الأنظمة في مصر وليبيا، والانتفاضات في البحرين واليمن، والمظاهرات التي تحوّلت في نهاية المطاف إلى حرب أهليّة في سوريا. وفي غمرة الاضطرابات اللاحقة وموجات العنف والأنباء السيّئة القادمة من المنطقة يَسهُل أن نغفل عمّا أحرِزَ من تقدّم ابتدأ من نقطة الصفر في هذه الصحوة الإقليميّة.

عَقِب سقوط زين العابدين بن علي، واجهت تونس سلسلةً من الصعوبات كان من بينها اغتيالان سياسيّان كبيران هزّا البلاد وأوصلا المشهد السياسيّ إلى حالةٍ من الاضطراب الشديد. ومع ذلك، لم تستطع هذه الأحداث المأساويّة إلى الآن أن تحرف البلاد عن مسارها الانتقاليّ. فقد شهدت تونس بعد الاغتيال الثاني تسويةً سياسيّةً جمعت أقطاب خصومةٍ سياسيّةٍ مريرة. وقد أدّى الاتّفاق إلى تشكيل حكومة انتقاليّة ستشرف على الانتخابات الجديدة وعلى اعتماد دستور جديد.

على أنّه ثمّة عنصر رئيسيّ آخر يشهد على هذا التقدّم، ألا وهو اعتماد قانون العدالة الانتقاليّة.

وفي حين قد يتساءل بعضهم في الدول الغربيّة عن معنى "العدالة الانتقاليّة" ومغزاها، فإنّ السؤال حول كيفيّة معالجة الانتهاكات التي تعرّضت لها المجتمعات الخارجة للتوّ من الممارسات التعسفيّة الجماعيّة – من قبيل التعذيب الممنهج، وحالات "الإخفاء" الواسعة النطاق، والجرائم ضدّ الإنسانيّة – يُعدّ سؤالاً ملّحاً وطارئاً، لا سيّما بالنسبة إلى ضحايا هذه الانتهاكات. فهؤلاء يريدون معرفة الحقيقة: ما الذي حدث لأحبّائهم؛ ومَن الذي ارتكبَ تلك الممارسات الظالمة ومَن الذي أعطى الأوامر بتنفيذها؛ وكيف يمكن تفادي تكرارها في المستقبل. إنّهم يرغبون برؤية مرتكبي الجرائم يواجهون العدالة، ولا يريدون لهم أن يتقلّدوا مرّةً أخرى مواقعَ ذات صلة بالمسؤوليّة العامّة. كما أنّهم يتطلّعون إلى الاعتراف بمعاناتهم من خلال برامج جبر الضرر التي تسعى مادياً ومعنوياً إلى التعويض عن الخسائر أودت بحياة بعضهم أو تركت آثار جرحها في بعضهم الآخر. وخلافاً لبعض الذين يجادلون لصالح "طيّ صفحة" الماضي ونسيانه، فإنّ الضحايا وأقاربهم يعلمون أنّه يجب معالجة الماضي وإدراجه في نهاية الأمر بدقّة في كتب التاريخ والمناهج الدراسيّة الوطنيّة. إنّ هذه الأمور تنطوي على إجراءات بالغة الصعوبة، ولكنّ المجتمعات على امتداد العالم اعترفت بأهمّيّتها وشأنها.

في تونس، تمّ التسليم بضرورة الالتفات إلى معالجة آثار الماضي والانتهاكات التي شهدها، وذلك في مرحلة مبكّرة من الانتقال. وقد أنشأت الحكومة التي تشكّلت بعد رحيل بن علي وزارةً لحقوق الإنسان والعدالة الانتقاليّة. وأطلقت هذه الأخيرة حواراً وطنيّاً حول كيفيّة إحقاق العدالة فيما خصّ الانتهاكات السابقة. ولعبت منظّمات المجتمع المدنيّ الدور الرئيس في الدفع قدماً بإجراءات العدالة الانتقاليّة ودعمها. وكان هذا الدعم حاسماً في خضمّ الصراع السياسيّ المتوتّر الذي كان بإمكانه جرف مفهوم العدالة الانتقاليّة بسهولة بالغة والذهاب به أدراج الرياح.

وقد بدأت هذه الجهود تؤتي ثمارها مع تبنّي قانون العدالة الانتقاليّة في الخامس عشر من كانون الأوّل/ديسمبر. وتمّ التصديق على هذا التشريع التاريخيّ بعد عمليّة تشاوريّة واسعة أُجريت على نحوٍ مثير للإعجاب على امتداد أنحاء البلاد كافّة، بما في ذلك المناطق النائية، وشاركت فيها جميع الفئات الشعبيّة؛ لم يُترك ذلك للنخبة في تونس وحدهم.

ينصّ القانون على مجموعة شاملة من التدابير، من بينها تشكيل "هيئة الكرامة والحقيقة"، وذلك على غرار ما ينوف على الأربعين لجنة من لجان تقصّي الحقائق التي أُنشئت في المجتمعات الانتقاليّة الأخرى. وتشمل هذه الإجراءات أيضاً إنشاء غرف قضائيّة مختصّة بالتصدّي لانتهاكات حقوق الإنسان، والعمل على جبر ضرر الضحايا والتعويض عليهم من خلال صندوق الكرامة والتأهيل لضحايا الطغيان. أضف إلى ذلك، ينطوي القانون على أحكام خاصّة مهمّتها تطهير سلك الشرطة والأمن وقطاع الخدمات القضائيّة من منتهكي حقوق الإنسان. والأهمّ من ذلك كلّه هو أنّ القانون يعترف بأنّ النساء والأطفال أكثر عرضة للانتهاكات ويتضمّن تدابيرَ مناسبةً لتلبية احتياجاتهم.

بطبيعة الحال، ليست هذه سوى خطوة أولى في عمليّة طويلة وصعبة، وستظهر تباعاً بعض الفوضى على صعيد التفاصيل التنفيذيّة من قبيل اختيار الأفراد المناسبين لعضويةّ "هيئة الحقيقة والكرامة". ومع ذلك، فإن اعتماد القانون يعتبر إنجازاً مميّزاً ومؤشّراً أساسيّاً على التزام تونس معالجةَ الممارسات التعسّفيّة الماضية.

ثلاث سنوات مرّت أفَل معها نجم الأيّام النابضة من "الربيع العربي" وغابت معها عن المشهد، حيث يعود الحكم العسكريّ إلى الواجهة في مصر، ويستمرّ حمّام الدم في سوريا، وتحافظ الأنظمة القمعيّة في العديد من البلدان الأخرى في المنطقة على وجودها. في الواقع، يبدو مسار التحوّل إلى مستقبل أكثر ديمقراطيّةً تُحترم فيه حقوق الإنسان – وهذا محطّ آمال الكثيرين سواء في المنطقة أو خارجها – بعيداً جدّاً في بعض البلدان. هذه مسألة لا جدال فيها. ولكن، في الوقت نفسه، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ بعض الحركات الاجتماعيّة التي انطلقت نتيجة "الربيع العربي" قد تبقى على قيد الحياة وربما تزهر في وقت لاحق. نادراً ما يتبع التاريخ خطاً مستقيماً، وعلينا أن نحذر من المتنبّئين الواثقين الحاسمين ومن التنبؤات الحادّة والمغلقة.

في هذه اللحظة التي خرج فيها الكثير عن مساره في المنطقة، يجدر بنا، إنصافاً، أن نشير إلى أنّ البلاد التي انطلق منها كلّ شيء قد خَطَت خطوات هامّةً نحو معالجة ماضٍ مشحون بسوء المعاملة، وتقدّمت باتّجاه العمل على مستقبل تُحترم فيه الحقوق. في الواقع، إنّ التطورات الأخيرة في تونس ليست فقط جديرةً بالاهتمام، ولكنّها أيضاً تقدّم إشارات مفيدةً عن التحولات في المنطقة وخارجها.


تم نشر المقال يوم 15 كانون الثاني/يناير في فرانس 24

الصورة: تونسييون يلوحون بالعلم ويهتفون شعارات خلال المسيرة الاحتفائية للذكرى الثالثة لرحيل زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني/يناير 2014 في ساحة حبيب بورجيبة، تونس (فتحي بالعيد/AFP/Getty Images)