كتب بول سيلز, نائب رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية
إن كيفية تطبيق العدالة الجنائية والعقاب في حل النزاع المسلح في كولومبيا لغز مثير للقلق بالفعل. حتى الآن، اتجهت المناقشات إلى التركيز على جانبين. أولاً، مسألة إذا كان من المعقول على الإطلاق تحقيق العدالة بخصوص العديد من الجرائم الخطيرة التي ارتُكبت خلال الصراع، مع مراعاة الصعوبات التي تطرحها هذه العدالة على المفاوضات الجارية لإنهائه. ثانياً، إذا كان الأمر كذلك، ما هي أفضل الآليات لتحقيق العدالة؟
قد يكون مفيداً إعادة صياغة السؤال. نشر المركز الدولي للعدالة الانتقالية مؤخراً ورقة تسبر هذه الأفكار بشكل مفصل، و تقترح أننا بحاجة إلى أن نسأل أنفسنا أولاً : ما هي أهداف سياسة المعاقبة على أشد الجرائم خطورة، في سياق مفاوضات السلام لإنهاء الصراع الذي امتد نصف قرن؟ عندها فقط يجب أن نسأل عن أفضل التدابير لتأمين تلك الأهداف.
إن هدف سياسةٍ ما ليس كمثل مسوّغ أخلاقي؛ فبدلاً من سؤال أيّ حقٍ يُمكّننا من أن نعاقب ، علينا أن نسأل عما نهدف إلى تحقيقه من خلال العقاب. في نظام العدالة المحلية، المعاقبة على الجرائم لديها العديد من الأهداف: إضعاف المجرمين، والردع بشكل عام وخاص، والعقاب، وإصلاح المجرمين، وفكرة "التواصل"— وهي الإدانة العلنية التي تؤكد القيم الأساسية، في الوقت الذي تعطي الجناة فرصة للتفكير والسعي لإعادة الإدماج. |
|
إذا نظرنا للنقاش حول المعاقبة على جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات المسلّحة الثورية الكولومبية (FARC)، سنجد أن أول ثلاثةٍ من هذه الأهداف لديها تأثير محدود، حيث يسعى تعجيز المجرمين للحد من التهديدات على السلامة العامة في الشارع، بينما يهدف الردع المحدد لفرض عواقب سلبية لثني مذنب معين عن سوء السلوك في المستقبل. ولكن إذا كانت عملية السلام ناجحة، فإن الصراع سينتهي؛ حيث أن النزاع يوفر الوسائل، والدوافع، والفرصة لأن ترتكب الجرائم الخطيرة من قبل معظم المسؤولين في القوات المسلحة الثورية الكولومبية، ومن ثم، فإن إنهاء الصراع من شأنه أن يقلل بشكل جذري من خطر تكرار الجرائم من قبل هؤلاء الأفراد. وعلى هذا، فإن العقاب الناشئ عن مفاوضات السلام لن يكون عن تعجيز أو منع المجرمين من تكرار جرائمهم.
وبالمثل، الردع العام ليس الجوهر حيث أنه ينذر الجمهور بوجه عام بنتائج وخيمة ، ويعتمد بشكل حاسم على فكرة اليقين من العقاب. وهذا يتطلب أن يكون نظام العدالة فعالاً بشكل عام، وخصوصا في الحالات الأكثر خطورة. من المتوقع في كولومبيا أن يتم تطبيق إجراءات استثنائية لمجموعة صغيرة من الجناة من القوات المسلحة الثورية الكولومبية، لأن العكس تماماً هو الحال: حيث النظام العدالي لم يفعل ما ينبغي القيام به.
بناء على ذلك، فإن أفضل وسيلة لفهم أهداف السياسة العامة للعقاب في السياق الكولومبيي هي بمثابة مزيج من الأهداف العقابية، والإصلاحية، والتواصلية. أولاً، يجب علينا أن نفهم أن العقاب، كهدف للسياسة (و نقيض للمسوغ أخلاقي)، يعني ببساطة تسبيب معاناة للجاني، دون هدف آخر. ولكن القانون الدولي لحقوق الإنسان يتطلب أيضاً الإصلاح والتأهيل كهدف من أية عقوبة جنائية، وهذا يعني أن العقوبة يجب أن تكون مصممة لتمكين التغيير في السلوك المستقبلي.
لعل أهم هدف في سياق كولومبيا هو العقاب كطريقة من التواصل. هذا يتضمن فكرتين: الفعل الرسمي من الإدانة العلنية التي تؤكد القيم الاجتماعية الأساسية، بما في ذلك الاعتراف بالأضرار التي لحقت الضحايا؛ والفرصة المتاحة للجاني للتفكير في ظلمه، والتعرف عليه، وتبني نفس القيم الاجتماعية الأساسية التي انتهكها. هذه الفكرة من الأهداف التواصلية للعقوبة لها حجة هامة لهؤلاء المسؤولين عن ارتكاب الجرائم الخطيرة ، حيث أضر السلوك أثناء النزاع باحترام القيم الأساسية التي تربط المجتمع معاً. وعليه، فإن الهدف الأساسي من العقاب هو تمكين المجتمع لإعادة تأكيد هذه القيم والسماح للجناة بالاعتراف بها ، واتباعها بأفضل شكل.
ما هي التدابير اللازمة لتأمين هذه الأهداف الثلاثة؟ نسمع كثيراً أن العقوبة يجب ألا تعكس مدى ثقل الجريمة فحسب ولكن أيضاً دور الجاني. التناسب يبدو منطقياً عند التعامل مع جرائم أقل خطورة نسبياً. ولكن مع الجرائم الخطيرة جداً يصبح التناسب وهماً: حيث ترجح كفة مدى الفظائع المرتكبة سريعاً كفة العقوبات المتاحة.
|
فرض القانون الكولومبيي ، العدل والسلام لعام 2005، عقوبة قصوى بالسجن ثماني سنوات في حالات شملت كبار القوات شبه العسكرية، الذين اعترفوا بعدة مئات من جرائم القتل. لا يمكن لأحد أن يقول بصراحةً للضحايا أولأقاربهم أن العقوبة تعكس ثقل الجريمة. ومع ذلك، أشار مكتب المدعي العام (للمحكمة الجنائية الدولية —ICC) في دلالة هامة أنه لا توجد مشكلة من حيث المبدأ مع هذا النهج. |
إن الدعوات لفرض عقوبات تتناسب مع الجريمة يصرف التركيز الحقيقي عن الحكم ، وعلى كلّ، فإن هذا النهج التناسبي تم التخلي عنه عملياً من قبل كلٍ من السلطات الكولومبية والمحكمة الجنائية الدولية؛ مثل هذه الدعوات للتناسب هي بالأساس متكلّفة.
ولكن يبقى السؤال: إذا قبلنا عدم النسبية، كم من العقاب سيكون كافياً؟ الجواب هو: بقدر ما هو ضروري ليكون فعالاً في تحقيق الأهداف التي تم وصفها. على نطاق واسع تم افتراض أن العقوبات ستكون أخف بكثير مما كانت عليه في الظروف العادية، ولكن بعض أحكام وقف تنفيذ العقوبة ستطبق في سياقٍ مع غيرها من التدابير. وبقدر ما يتعلق الأمر بالهدف التواصلي، ينبغي أن يركز العقاب على ذهن الجاني بما فيه الكفاية لفهم الأضرار. وينبغي أن يمثل شكلاً من أشكال التكفير الاجتماعي، وتمكين الضحايا من مواجهة الجناة. يجب أن يكون العقاب أكثر من رمزي.
فكيف لكولومبيا إذن تحقيق أهداف العقاب، و التواصل، والإصلاح؟ أولاً، يجب أن تكون عملية المحاكمة علنية، ومنفتحة، وجادة. ثانياً، ينبغي أن يكون من حق الضحايا من الحالات المختارة الاجتماع مع المدانين، وطلب إجابة منهم. هذه الاجابة قد تشمل إقراراً، أو قد تكون مؤشراً على قبول القيم الاجتماعية الأساسية. ثالثاً، يجب أن يصاحب أي حكم مع وقف التنفيذ اتخاذ تدابير إضافية، مثل الغرامات المالية، والإقصاء المؤقت من الوظائف العامة، والإلزام بالخدمة المجتمعية في المناطق المتضررة من الجريمة. إذا احتاجت عقوبة السجن لأن يتم تخفيضها بحيث تكون رمزية بشكل فاعل، قد يكون ذلك مجالاً لأن تلبي الواسائل الأخرى الأهداف الحقيقية من العقاب.
إعادة صياغة سؤال العدالة للتركيز على أهداف العقاب يساعد على تحديد أفضل الوسائل لتحقيق تلك الأهداف. ولكن في نهاية المطاف، سيقرر الشعب الكولومبيي في الاستفتاء أية تدابيرعقابية مقبولة له؛ سيكون لديه حق الكلمة الأخيرة.
يمكن قراءة هذه الورقة باللغتين الانجليزية و الأسبانية.
نشرت هذه المقالة في OpenDemocracy.
*الصورة: أحد السكان المحليين يمشي بجانب جرافيتي لقائد القوات المسلحة الثورية الكولومبية الراحل، ألفونسو كانو، بقرية بتوريبيو، مقاطعة كاوكا، كولومبيا، في الثامن من نوفمبر 2004. (LUIS ROBAYO/AFP/Getty Images)