قانون المصالحة التونسي المقترح سوف يمنح العفو عن الفساد ويفشل في النهوض بالاقتصاد

21/07/2016

في العام الماضي، أدت احتجاجات واسعة لتخلي حكومة تونس عن "قانون المصالحة"، المقترح الذي كان من شأنه أن يمنح شكلا من أشكال العفو لرجال الأعمال الفاسدين والمسؤولين في عهد بن علي الذين لولا القانون المقترح لتم تقديمهم للمحاكمة. قالت الحكومة أن ذلك القانون من شأنه أن يحفز الاقتصاد التونسي بينما يقدم نوعا من "المصالحة". في الواقع، كان ليجيز الأصول المسروقة ويسمح بالفساد دون عقاب.

تعرض المسودة نفسها ثانية أمام البرلمان ويبقى سوء وضعها الآن كما كان عليه في العام الماضي. جلسنا مع الدكتور عبد الجليل البدوي، أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية وعضو مؤسس في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لمناقشة القانون وما يعنيه لتونس في حالة تمريره. ويوضح البدوي لماذا لن يولد مشروع القانون نموا اقتصاديا ويفصّل لم تونس بحاجة إلى سيادة القانون، وليس الإفلات من العقاب، بينما تسعى لإعادة اقتصادها في أعقاب الفساد.

تقول الحكومة إن هذا القانون سوف ينهض بالاقتصاد التونسي. هل هذا ممكن؟

هذا القانون لن يلبي حاجيات الاقتصاد التونسي . بالنسبة للمسؤولين الفاسدين، قد يعتبر قانون المصالحة بمثابة عفو تشريعي، أي بمثابة عفو جبائي لتسهيل عملية خروجهم من الوضعية بأقل التكاليف. شخصيا لا أرى كيف لشخص فاسد عُرف عنه تكوين ثروته بتجاوز للقانون، من خلال استغلال مواقع ريعية ومواقع قربه للسلطة، أن يسهم في تنمية الاقتصاد. من ناحية المبدأ لا يمكن لشخص وُجد فاسدا أن يَصلُحَ لنفسه أو لاقتصاد بلاده.

القول بأن هذا القانون، الذي يصور الفاسدين كرجال أعمال وأصحاب مشاريع، ملح للاقتصاد هو مدخل مغلوط لأن هؤلاء الناس قد دمروا الاقتصاد ، وأتت ثرواتهم من تدميرٍ للاقتصاد وليس من نمو الاقتصاد. التنمية الاقتصادية في الواقع في حاجة لرجال أعمال تحترم القانون و تبقي ثرواتها بمبادراتها، بابتكاراتها، بإقدامها، بقدراتها على أخذ الرهان.

هل تعتقد أن القانون سوف يكون قادراً على استعادة مقتنيات جمعت بطريقة غير مشروعة ويساهم في الأموال العامة؟

العملية المنصوص عليها في القانون هي نوع من المعاملات المالية، ولا تحدد جميع الأصول غير المشروعة. هذا يعني أن قانون المصالحة لن يسهم إسهاما بشكل ملحوظ في الإيرادات العامة.

ونحن نعلم أن سلطة الإشراف على المعاملات المالية هي جهة مُعينة من طرف السلطة التنفيذية. أيا كان الشخص المكلف باتخاذ هذه القرارات، حتى وإن كان نزيها، فإنه سيقع تحت ضغوط هائلة وتدخلات وضغوط للتأثير على قرارته. وهذا سيخلق وضعا يصعب حله في وقت لاحق.

كما سيكون أيضا من الصعب التحقق من جميع التصريحات التي سيتم تقديمها بموجب القانون المقترح. على سبيل المثال، فإن الشخص الذي سرق مئات الآلاف من الملايين لن يصرح بكل ما يملك بل بجزء صغير مما لديه تفاديا لخسارة كل ما يملك. لن تكون الحكومة قادرة على التحقق مما يملك في الواقع، مما يؤدي إلى عوائد مالية مخيبة للآمال.

ما الآثار المترتبة للقانون على تدابير العدالة الانتقالية في البلد؟

أكثر ما يقلقني هو حقيقة أن القانون المقترح يركز على خلق المعاملات المالية مع الفاسدين بدلا من محاربة نظام الفساد الذي إنْغَمَسَوا فيه. مقاومة منظومة الفساد تتطلب معرفة وفهم الفساد القائم: على الحكومة فهم الشبكة، الهيكل، والآليات، وأصحاب المصلحة المعنيين في الفساد. وبمجرد تحقيق هذا الفهم، يمكن تصميم خطة لمكافحة الفساد وتفكيك هذه الشبكة.

ولكن عملية المصالحة [المقترحة في القانون] تقتصر على المعاملات المالية بين الأفراد، وليس تسديد الحسابات. وهذا يعني أن المصالحة قد تخلت عن جوهرها وعلة وجودها لأن ضمن برنامج العدالة الانتقالية لهيئة الحقيقة والكرامة هناك التزام بإقامة منظومة جديدة تمنع الفساد.

حسنا، إن كنت لا ترى أن القانون سوف ينهض بالاقتصاد، ما الذي يمكنه ذلك؟

عملية التنمية تتطلب مجموعة من الشروط التي من المحتمل أن تحفز الاستثمار. الاستثمار هو مشكلة كبيرة في تونس بينما تتجه نحو اقتصاد السوق. ففي إطار الانتقال إلى اقتصاد السوق ، تخلت الدولة عن دورها الاقتصادي وحصتها من الاستثمار أصبحت ضعيفة طيلة الخمس سنوات الاخيرة.

مشكلتنا هي أن دولتنا تخلت عن الاستثمار في القطاع المنتج عن طريق الخصصة، وفي المقابل لم يقم القطاع الخاص بالتعويض بالنسق المطلوب. منذ 25 سنة أو أكثر، منذ ابتداء تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي و إلى حد الآن، لم يتجاوز متوسط الاستثمار العام في تونس 25٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وتؤكد كل التحاليل أنه لمواجهة الاختلالات على مستوى التشغيل وعدم المساواة، وتعزيز التنمية الجهوية في ميدان العدالة الاجتماعية، يجب أن نكون قادرين على تحقيق 30% من نسبة الاستثمار العام.

للأسف، نحن بعيدون عن هذا الرقم، وأصبح 25٪ من الاستثمارات العامة سقفا لا يمكن تجاوزه. من ناحية الحوكمة، تمثل هذه النسبة الاستثمار العمومي و الخاص و 60 % من الاستثمارات الجملية هي استثمار خاص. عند مقارنتها بدول أخرى كالمغرب و مصر و تركيا و ماليزيا ، تبقى تونس بعيدة جدا خاصة في القطاع الخاص.

بلغ استثمار تونس 11٪ من الناتج المحلي الإجمالي، في حين سجلت البلدان الآسيوية الناشئة 25٪. يعود انخفاض الاستثمار الناتج المحلي الإجمالي في تونس إلى الفساد الشائع. وهذا يعني أن المستثمرين يجب أن يفكروا مرتين قبل الإقدام على مشروع في تونس خوفا من رؤية المشروع مسروقا عن طريق التخويف بالقانون أو بدونه.

وهناك أيضا مسألة الالتزامات التعاقدية: العمل الاقتصادي يتطلب الالتزام بحقوق الملكية، واحترام العقود من قبل الأفراد والمؤسسات التجارية . ولذلك، فإن مصداقية القضاء أمر ضروري في حال النزاعات المتعلقة بالعقود. إن لم يتم تحقيق العدالة من خلال المحاكم، فلا توجد وسيلة للمتقاضين للتحدث علنا ضد الظلم من خلال اللجوء إلى وسائل الإعلام أو الصحافة الحرة.

كل هذه العوامل وغيرها تصطف كمعوقات للاستثمار في تونس. وبالتالي، هناك حاجة ماسة لمعالجة هذا النظام عن طريق ضمان حد أدنى من الشفافية، واستقلال القضاء، والالتزام بحقوق الملكية، للتأكد من أن المصالحة يمكن أن يكون لها بعدا إصلاحيا وتنمويا. هذا لا يمكن أن يتحقق من خلال تمكين الناس الفاسدين البدء من جديد وكأن شيئا لم يحدث. نهج المصالحة الذي يقدمه هذا القانون المقترح مضلل وتناقض مع المكاسب الدستورية الجديدة التي تتطلب بديلا تنمويا حقيقيا على المستوى الاقتصادي و السياسي و المؤسساتي. إذا خذلنا هذه التطورات الدستورية، فإن النموذج الإنمائي الجديد لن ينجح بل سيكون مجرد حبر على ورق.

لذلك، أعتقد أننا يجب أن نترك العدالة الانتقالية تمضي قدما من خلال هيئة الحقيقة والكرامة. علينا أن نعمل مع الهيئة لكشف وتفكيك هذه الشبكة من الفساد من أجل بناء نظام جديد يرسي كيانات مؤسسية محترمة ويبني الثقة لدى المواطن بصفة عامة و للمستثمر بالخصوص.

ماهي المبالغ التي من الممكن استردادها بموجب هذا القانون في حال إقراره ؟ و ماهي المبالغ التي من شأنها أن تحدث حقا فرقا في اقتصاد تونس؟

لا يمكن لأي شخص الإجابة على هذا السؤال لأننا لا نعرف كم من المال قد جمع هؤلاء الفاسدون. لا ينبغي لنا أن نتوقع أو نأمل أن يقوم الناس بالتصريح عن ثرواتهم الحقيقية من تلقاء أنفسهم، لذلك لا يمكننا إجراء تقييمات دقيقة عن عائدات الدولة المحتملة من القانون.

ولكن يجب ألا تعتمد التنمية على استعادة تلك المبالغ؛ يجب أن تعتمد على قدرتنا على خلق شعور المواطنة. تونس بحاجة أن يصبح مواطنيها على وعي تام بحقوقهم، حريصين على دفع الضرائب المستحقة عليهم، والامتثال لقوانين العمل والقوانين التجارية والوفاء بالتزامات الأخرى ... في الوقت الراهن، 50٪ من اقتصادنا غير رسمي . التهرب الضريبي هو شكل آخر من أشكال الفساد الذي يجب اجتثاثها من أجل تمكين الدولة من بناء البنية التحتية وتقديم الخدمات العامة. ولكن لا أعتقد أن قانون المصالحة المقترح سيقدم مساهمة كبيرة.

هناك حاجة ملحة لمكافحة الفساد من خلال إنشاء نموذج تنموي بديل جديد.

نحن بحاجة للحفاظ على عملية التنمية من خلال إقامة المؤسسات والآليات والتقاليد التي تجعل من الممكن خلق نمو واسع النطاق على المدى البعيد، بدلا من التركيز على حلول على المدى القصير. وهذا يتطلب جهود تنظيف: يجب علينا القضاء على الفساد وإقامة النظام الذي يغرس في النفس الشعور بالمواطنة حيث الجميع مدعو لخدمة المشروع التنموي التونسي.

في الفلبين و البيرو ، تم انتزاع الاصول التي تم الحصول عليها من مسؤولي الدكتاتورية السابقين و أسرهم . لكن هؤلاء المسؤولين و أفراد أسرهم لم يحصلوا على عفو . في الفلبين ، لا تزال عائلة ماركوس تواجه القضايا الجنائية للفساد . في البيرو، أدين الديكتاتور فوجيموري بانتهاكات متعلقة بالفساد وحقوق الإنسان. في كلتا الحالتين، تم استخدام جزء من الأصول المنتزعة من ماركوس وفوجيموري لتمويل التعويضات، تخليد الذكرى والبحث عن الحقيقة. هل يمكن لمسار مماثل أن ينجح في تونس خاصة مع وجود هيئة للحقيقة و مسار العدالة الانتقالية ؟ أي نوع من الآليات يمكن تطويره في هذا الصدد؟

بالطبع نحن بحاجة إلى عملية مماثلة، عملية تضع مسار تنموي كبديل حقيقي سترفع الاستثمار ما وراء عتبة 25٪ التي ذكرتها سابقا من خلال المساءلة، ثم المصالحة في نهاية المطاف. الهدف ليس بالضرورة مالي؛ بل هو معرفة منظومة الفساد و تفكيكها. هدفنا ليس المال فهذا يصبح ثانويا في نظرة استراتيجية مستقبلية. الأولوية هي خلق الظروف التي تدعو التنمية. لذلك فمن الضروري دعم عملية العدالة الانتقالية في كل خطوة من خطواتها ومراحلها دون انتقام أو ثأر، دون أي ضغينة.

ما هي الآليات التي يجب وضعها من أجل ضمان أن الإيرادات سوف تعود بالنفع على الشعب التونسي؟ هل تعتقد ان الحكومة وضعت خطة كهذه؟

للأسف،لا توجد خطة للحكومة. نحن نتعامل مع فترة استثنائية، وقع تسميتها "فترة انتقالية". في مثل هذه الحالات، يجب أن نطبق القانون من خلال اتخاذ تدابير استثنائية: على سبيل المثال، وصل العجز التجاري إلى مستويات قياسية ولكن ما زلنا نستورد السيارات والتفاح والكماليات وكأن شيئا لم يحدث. هذا النزيف لابد من التوقف حتى يمكننا التنفس مرة أخرى واستعادة توازننا الاقتصادي الكلي لدينا.

الوضع الاقتصادي لا يمكن أن ينتظر، لا سيما في سياق العولمة حيث تسود المنافسة تاركة الضعفاء وراءها. على سبيل المثال، عندما توقف إنتاج تونس من الفوسفات أمضى المشترون عقودا مع دول أخرى - إن لم تكن قادرا على التقدم، لن ينتظرك أحد. لذا فنحن بحاجة إلى إرادة سياسية قوية وتضامن اجتماعي حقيقي لمعالجة هذه القضايا الجذرية. جميعنا نبحر على نفس السفينة وغرقها يعني أن يذهب الجميع إلى أسفل ونصبح فريسة سهلة للسياسيين. بسبب تدهور الخدمة المدنية يقترب الوضع من الكارثة. ما لم نقف بحزم لمواجهة تلك القضايا سوف ننتهي إلى حالة كارثية.

ماذا يحتاج الاقتصاد التونسي ، خصوصا في المناطق الريفية ، وما ينبغي القيام به من قبل الحكومة لتلبية هذه الاحتياجات؟

في مثل هذا الوضع الاستثنائي نحن بحاجة إلى تدابير خاصة. أولا وقبل كل شيء، نحن بحاجة لضمان نمو الاستثمار العام لأننا لا نستطيع اعتبار الوضع عاديا ونرتقب أن يلعب الاستثمار الخاص دور الحكومة، وخاصة في ضوء الفراغ الأمني، وعدم الاستقرار الاجتماعي و الوضع السياسي الغامض ...

لذلك يجب على الدولة الوفاء بمسؤولياتها لأن القطاع الخاص لا يمكنه أن يقوم بمخاطرات كبيرة في بلد غير مستقر. نحن بحاجة إلى بذل جهود غير عادية؛ نحتاج إلى مزيد من الموارد لتسهيل المشاريع بدلا من العقبات الإدارية والمالية والعقارية. نحن بحاجة إلى تحسين الإنتاج في جميع المناطق، وإشراك الأشخاص المعنيين بالأمر لتحسين المستوى المحلي و الجهوي كوسيلة لتسليط الضوء على تثمين موارد كل جهة حسب معطياتها و حاجياتها .

وأخيرا ، ما مآل آليات مكافحة الفساد التي أرستها الدولة التونسية إن تم تمرير هذا القانون ؟ لن تغير شيئا .