تستضيف هيئة الحقيقة والكرامة التونسية سلسلة من جلسات الاستماع العامة هذا الشهر، حيث سيشارك بعض الضحايا قصصهم علنا. ستوفر جلسات الاستماع هذه فرصة هامة للمجتمع التونسي لسماع الحقيقة مباشرة من الضحايا حول انتهاكات الديكتاتورية ومواجهة التاريخ القمعي للبلد.
لأجل أن تكون الشهادات العامة فعالة، يجب على وسائل الإعلام نقل قصص الضحايا بشكل مؤثر، وتَتَبّع القضايا التي تعزز خبراتهم. لمساعدة وسائل الإعلام التونسية في استعدادها لتغطية الشهر المقبل وضمان حصولها على جميع الموارد التي تحتاج إليها، نظمت هيئة الحقيقة والكرامة دورة إعلامية تدريبية لمدة أسبوع للصحفيين. بدعم من المركز الدولي للعدالة الانتقالية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، جمعت الدورة التدريبية صحفيين من جميع أنحاء تونس معا، بالإضافة إلى خبراء لديهم تجربة سابقة في تغطية عمليات العدالة الانتقالية.
كان ماكس دو بريز من بين الخبراء الدوليين الذين حضروا التدريب ، والذي تغطيته الصحفية والتلفازية أثناء فترة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لعبت دورًا حاسمًا في مواجهة الممارسات الوحشية للنظام. شارك ماكس تجربته مع الصحفيين التونسيين في التدريب، موضحا كيف تغلّب على التحديات في تغطية المرحلة الانتقالية في بلاده، ومجيبًا على أسئلة الصحفيين الذين يستعدون لتغطية جلسات الاستماع العامة.
حاور المركز الدولي للعدالة الانتقالية ماكس حول الدورة التدريبية، وعمله الصحفي، ونصائحه لنظرائه التونسيين.
ماكس، يسرنا جدا أن نرحب بك في مكتبنا، مكتب المركز الدولي للعدالة الانتقالية في تونس. أعلم أن هذه هي المرة الأولى التي تزور فيها تونس ونحن مسرورون أنك ستجيب على بعض أسئلتنا. هل يمكن أن تحدثنا عن سبب مجيئك هنا؟
أنا هنا في محاولة لمساعدة الصحفيين التونسيين معرفة الكيفية التي ينبغي بها تغطية هيئة الحقيقة والكرامة، حيث أنني كنت مسؤولاً عن التغطية التليفزيونية للجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا لعدة سنوات، وكان لدينا برنامج ناجح جدا. لذا ظننت أنه من المفيد مقارنة تجاربنا واطلاعهم على الأخطاء التي اقترفناها عندما غطينا لجنة تقصي الحقائق، والمزالق والأخطار، والفرص ... في المجمل أردتُ أن أقول لهم إنه ينبغي عليهم أن يكونوا جريئين ومبتكرين، كما عليهم إدراك أن عملية هيئة الحقيقة هي أكثر أهمية من أي تقرير أو أي قطعة من الورق وأن وسائل الإعلام فقط يمكنها فعل ذلك. يمكنهم إنماء شعبية هيئة الحقيقة حتى يتمكنوا من إصلاح الأمة و قلوب الناس وعقولهم بدلا من السياسيين وموظفي الدولة.
كنت تكتب باللغة الأفريقانية، مما يعني أنك تكتب بشكل كبير لمن هم في السلطة أو من يستفيدون منها . ما كان شعورك عند مواجهتهم علنا بالحقيقة حول الفصل العنصري؟ ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من ذلك؟
نعم، كنتُ أعمل مع صحف ناطقة باللغة الإنجليزية في الثمانينات، ثم نحو منتصف العقد أدركتُ أن معظم أفراد الطبقة المذنبة من حكومة الأقلية البيضاء يتحدثون الأفريقانية، التي هي لغتي الأم. وكان هناك مقاومة طبيعية منهم لأي شيء يقال لهم خارج لغتهم الخاصة، لا سيما إن تم ذلك باللغة الإنجليزية. رأوا ذلك كعدو. فأدركتُ أن علي واجب لاستخدام لغتي الأم للتحدث إلى قبيلتي الخاصة، ثقافتي الخاصة، وكان ذلك صعبا. لم يكن لديهم مشكلة أن ينتقدهم شخص من "خارج القبيلة" حيث يمكنهم تجاهله.
ولكن كنت من الداخل وقلت لهم ما تفعلونه خطأ. إنها جريمة ضد الإنسانية. هل تعلمون ما يحدث؟ كتبت هذا بالأفريقانية... أنا وزملائي في صحيفة مستقلة نملكها ... وكان الرد غير مريح للغاية. غدوت بعيداً عن عائلتي. لا أحد من قريتي أو من عائلتي أراد معرفتي بأي حال. أنكر والدي أنني ابنه. كان ذلك مؤلم جدا، ولكن ضروري جدا جدا. أن تأتي من الداخل، وتتحدث من الداخل، بدلا من الانتقاد من الخارج. وفي النهاية، أعتقد، على الرغم من تعرضنا للهجوم، ولمضايقات، وقصف مكاتبنا، ومحاولتهم قتلي، ووضعنا في السجن وجميع هذه الأفعال، أعتقد أنه من المهم أن تفعل هذا باللغة: لغة الظالم بحيث لا يمكنهم أبدا قول: "لم نكن نعرف". لأنا جهرنا لهم بما كان يحدث في أحياء السود، وقلنا لهم ما كان يدور في حركة التحرر، بحيث لا يمكنهم أبدا أن يقولوا: "'صوتنا لنظام الفصل العنصري لأننا لم نعرف." حسنا لقد أخبرناكم.
كيف تشكل وسائل الإعلام دورا فعالا في النضال من أجل المساءلة والإنصاف؟
أعتقد أن وسائل الإعلام، وُضِعت بشكل مثالي، في طليعة أي مشروع لتوطيد المساءلة والشفافية في الحكومة. لأننا بشكل يومي يمكننا حمل مرآة للحكومة. يمكننا أن نذكرهم بما يقولون وما يفعلون. يمكننا، على أساس يومي، أن نوجه الناس العاديين الذين يقرؤن الصحف ويستمعون للإذاعة ويشاهدون التلفزيون: هذا ما يقوم به أولئك الناس تحت اسمك. لقد قمت بالتصويت لهذا، عليك أن تسأل الآن. سوف نغطي ما نعتقد أنه يحدث، ولكن أنت كجمهور بحاجة إلى طرح الأسئلة لأن لديك الحق في المعرفة.
لذلك، نحن كوسائل الإعلام نحتاج أن نكون متعنتين بشكل لا هوادة فيه، وأن نفعل ذلك كل يوم. خلاصة القول: يجب على السياسيين وموظفي الخدمة المدنية أن يكونوا شفافين وخاضعين للمساءلة على كل مستوى لأن هذا هو جوهر الديمقراطية وليس الانتخابات مرة كل خمس سنوات. أصبحت وسائل الإعلام الجزء الأهم في الديمقراطية بين الانتخابات . لأجل أن هناك انتخابات وأشخاص منتخبين تعتقد أن لديك بطاقة مرور مجانية لمدة خمس سنوات قبل أن يُطلب الرأي العام مرة أخرى. ولكن منذ ذلك اليوم، بعد يوم الانتخابات، يجب على وسائل الإعلام أن تتدخل وتقول تذكر وعودك في ذلك الشهر وتلك السنة، يجب على وسائل الإعلام أن تعود وتقول: "تذكر ما وعدت عندما طلبت من الناس التصويت لك؟" هذا ما ينبغي على وسائل الإعلام فعله. وسائل الإعلام والمحاكم ركيزتان أساسيتان مع المجتمع المدني والسلطة القضائية ... وكل ذلك ركائز أساسية للديمقراطية بين الانتخابات.
ما كان التحدي الأكبر في تغطية الفصل العنصري وما الدروس التي يمكن استخلاصها من تلك التجربة؟
أعتقد أن التحدي الأكبر خلال الفصل العنصري، بصرف النظر عن السلامة، وتجنب الملاحقة القضائية، وتجنب المضايقات، وتجنب التعرض للقتل أو السجن أو التعذيب، كان التسرب إلى عقول الناس الذين آمنوا ووقفوا وراء النظام. كان الشيء الأكثر صعوبة إقناع الناس بأن الطريق الذي سلكوه كان سيؤدي إلى حرب أهلية وظلم كبير. إنه هام وصعب جدا لوسائل الإعلام إثبات للطبقة الحاكمة من الناس أن ما يقومون به ليس في مصلحتهم، وأنه أمر غير أخلاقي، وأن عليهم التخلي عن الامتياز لأن ذلك سيؤدي إلى ثورة قد تؤدي إلى حرب أهلية إن لم يتوقفوا. هذه هي الصعوبات. إن كنت تعمل في الصحافة وتحارب نظام قمعي فأنت تعرف أنك ستواجه بعض المخاطر.
أنت تعلم أنك تضع حياتك على المحك، وتعرف أنك ستتعرض لمخاطر قد تنتهي بك إلى السجن أو القتل. هذا يحدث بدون شك. الأمور الأخرى الأكثر أهمية هي الحصول على المعلومات الصحيحة وإقناع الناس بالتصديق. وأيضا إقناع الطبقة الحاكمة بتصديق ما تقوله وإقناعهم.
وخلال الدورة التدريبية الخاصة بك مع الصحفيين التونسيين، ما هي الأسئلة التي طرحها الصحفيون التي إِسْتَحَثَّت اهتمامك؟
أعتقد أنني كنت مهتم بالاستماع لحديث الصحفيين عن المصالح المختلفة التي تُمثّل المؤسسات الإعلامية المختلفة. هناك خوف بين الصحفيين من أن وسائل الإعلام في تونس تُمثل أسر ذات نفوذ، وجماعات ضغط قوية وشركات نافذة، وليس جميعهم سعداء برؤية نجاح هيئة الحقيقة والكرامة باعتبارها عملية مفتوحة.
أعتقد أن هذا كان مثيراً للاهتمام. والشيء الآخر الذي كان مثيرا للاهتمام الأسئلة التي طرحها الصحفيين عن هيئة الحقيقة والكرامة. "لماذا تريدون تقييدنا؟ لماذا تصرون على تكرير قول هذا غير مسموح به، وذلك غير مسموح به. لا يمكنكم فعل هذا، لا يمكن الكشف عن هوية هذا وذاك؟ " [هذا] هو اشتباه جانح بين الصحفيين بأنهم غير موثوق بهم، وأنه ينبغي إعطائهم المزيد من الحرية. ما حرك اهتمامي أيضا كان اهتمامهم بتجربتي مع السرد، ووضع وجه إنساني وراء القصة كطريقة أكثر فعالية لتغطية عملية مثل هيئة الحقيقة والكرامة.
وماذا يجب أن يأخذه الصحفيين في الاعتبار عند تغطية أنشطة الكشف عن الحقيقة؟
ينبغي على وسائل الإعلام الاحترام العميق..العميق للضحايا والناجين. على وسائل الإعلام التأكد جيدا من أنهم يتواصلون بشكل فاعل. إن كان لا أحد يشاهد التلفاز؛ إن لم تنجح في إقناع الناس بالمشاهدة والاستماع فقد فشلت. هذه ليست مجرد قصة عادية تغطيها وسائل الإعلام، بل حدث وطني وجزء من تاريخ تونس. إنها جزء من هويتك كجزء من الشعب وكجزء من البشرية. إنها لحظة كبيرة جدا. عليك أن تتعامل كإعلام مع هذا الحدث بهذه الطريقة وتتأكد من نقل القصص بصدق.
هناك أمر محرك للاهتمام : هل أنت مواطن أم صحفي بالدرجة الأولى؟ عادة ما يقال أنا لست مواطنا، بل مجرد صحفي. أنا مجرد مُبلغ عن الوقائع. عندما يتعلق الأمر بهيئة الحقيقة والكرامة، فأنت ربما 50٪ مواطن و 50٪ صحفي لأن هذا ذا أهمية وطنية وينبغي نقله بشكل صحيح. ليس هذا انحيازاً لأي جانب، بل للحقيقة، لموقف الشعب. ماذا حدث؟ أنت تكتب التاريخ. عليك أن تكون صادقا وعليك أن تكون ناجحا في سرد القصة حتى يتسنى للشعب الاستماع.
كيف يمكنك أن تميز بين - أو تصل - بين النشاط السياسي والصحافة؟ هل يجب فصلهم بالضرورة؟
لقد كنتُ دائما الصحفي الناشط. أنا لا أؤمن بالموضوعية. أؤمن بالإنصاف، وأؤمن بالتوازن، وأؤمن بالتحقق من مصادري. أؤمن بإعطاء الجانب الآخر صوتا. ولكن لا أؤمن بالحياد لأنه كذب على أي حال. لا أحد محايد. أنت منتج بيئتك، خلفيتك، مجموعتك العرقية الخاصة بك، حيث كبرت، حيث طبقتك الاجتماعية، والديك، أجدادك، أصدقائك؛ كل تلك الأشياء تؤثر. لذلك عليك أن تكون صادقا حول كل ذلك.
عندما يتعلق الأمر بقضايا مثل حقوق الإنسان أو حرية التعبير كيف يمكن لصحفي ألا يكون ناشطا؟ كل صحفي جاد بشأن الصحافة هو ناشط لحرية التعبير ومجتمع مفتوح وحقوق الإنسان. قبل أن تبدأ العمل الصحفي، عليك أن تؤمن بتلك القضايا الثلاثة. إن كنت لا تؤمن بمجتمع مفتوح وحرية التعبير، لماذا أنت صحفي؟ لماذا لا تذهب لتشتغل في الإعلان؟ إن كنت لا تؤمن بحقوق الإنسان، ماذا تفعل في الصحافة؟ وعليه فكل صحفي يجب أن يكون ناشطا، ولكن ليس للمصالح الفئوية، وليس لحزب سياسي، لكن نيابة عن الشعب، نيابة عن الصالح العام، نيابة عن العدالة الأساسية، نيابة عن الانفتاح، نيابة عن الشفافية و المساءلة. لتلك الأشياء، يجب أن يكون كل صحفي ناشطا؛ إن لم تكن ناشطا أخشى أنني لا أحترمك كجزء من مهنتي.
لذا سؤالي الأخير هو ما هي نصيحتك لهيئة الحقيقة والكرامة التونسية والمجتمع المدني التونسي من أجل تحقيق الأهداف الرئيسية للعدالة الانتقالية، وهي التي بشكل أساسي الحفاظ على الذاكرة والتاريخ؟
أود أن أناشد هيئة الحقيقة والكرامة وضع ثقة في الجمهور. عليها أن تثق أكثر في الجمهور وأن تثق أكثر في الإعلام. وأود أن أناشدهم إدراك أن هذه العملية ليست عنهم. هيئة الحقيقة والكرامة ليست حول المفوضين، أو المسؤولين أو السياسيين أو الحكومة أو القضاة، بل عن الشعب التونسي. هذا ما تدور حوله الهيئة، وعليها تذكر ذلك دوماً. والطريق إلى الشعب والناس يمر عبر وسائل الإعلام ولذلك أود أن أحث هيئة الحقيقة والكرامة ببناء علاقة عمل جيدة مع التلفزيون ووسائل الإعلام والصحفيين ومساعدتهم على رواية القصة، بدلا من إعاقتهم. أن تثق بهم أكثر قليلا. لأنك بحاجة للوصول إلى الناس لأن هذا ليس عن السياسيين، ولكن عن جماهير الشعب. تونس لديها لحظة الآن لكتابة التاريخ. لحظة فريدة من نوعها لقول: لا نستطيع فعل ذلك عن طريق مؤرخ واحد أو كاتب واحد، بل نستطيع كشعب تسجيل كل تاريخنا، ما حدث قبل وأثناء هذه الثورة، وهذا سوف يبقى. إن أضعت هذه الفرصة، فلن تأتي مرة أخرى.. لن تأتي مرة أخرى. ولهذا عندما يتعلق الأمر بالحقيقة ... وعندما يتعلق الأمر بالتاريخ ... فنحن نكتب التاريخ الآن.
أنا غيور من أن جنوب أفريقيا لم تُسمي لجنتها لجنة الحقيقة والكرامة، هذا منطقي أكثر مما كان لدينا ... كان للجنة الحقيقة والكرامة أن تُسهم قليلا في المصالحة، وكنا لشعرنا بكرامة أكثر . كان علينا التفكير في كرامة الإنسان لأن الحافز الرئيسي وراء كل تلك الجهود لتحقيق العدالة الانتقالية واستعادة العدالة هي كرامة الإنسان. مرة أخرى أود أن أحث الهيئة وأود أن أحث وسائل الإعلام أن كرامة الإنسان لا علاقة لها بالأوراق، بالمسؤولين، بالمفوضين، بالقضاة، بالسياسيين. نحن لا نتحدث عن "كرامتهم". هم يمتلكون كرامة كأصحاب امتيازات. نحن نتحدث عن كرامة الشعب التونسي، نحن نتحدث عن كرامة الضحايا والناجين من القمع [والعنف الذي حدث خلال]الثورة. آمل وأصلي أن تغتنم تونس هذه اللحظة وأنه 10 و 20 و 50 و 100 سنة من الآن سوف ينظر الناس إلى الوراء ليتأملوا أن لحظة مهيبة حدثت في تاريخ تونس.
الصورة: الصحفي ماكس دو بريز من جنوب أفريقيا يناقش تجربته في تغطية لجنة الحقيقة والمصالحة في بلاده في دورة تدريبية للإعلاميين في تونس (هيئة الحقيقة والكرامة / الفيسبوك)