في تاريخها مع القدر، إرث مانديلا منارة يجب أن تتبعها جنوب أفريقيا

03/03/2017

بقلم بول سيلز نائب رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية

في مقدمة كتابه " المواطنون: وقائع الثورة الفرنسية" يصيغ المؤرخ سيمون شاما حُجة قوية بأن التاريخ لا يُمكن أن يفهم إلا من الناحية الهيكلية حِذَاءَ محاورعَرِيضة من الثروة والسلطة. وبينما تلعب تلك المحاور دوراً، فالتاريخ، كما يقول، هو أيضاً القرارات التي يتخذها الأفراد في سياقات معينة لأسباب معينة. ومن المرجح أن يواجه أعضاء برلمان جنوب أفريقيا ما يمكن أن يكون لحظة حاسمة في مسار بلدهم، ولكنهم سيؤثرون أيضاً على التاريخ العالمي لحقوق الإنسان والعدالة في المستقبل القريب.

قضت المحكمة العليا في بريتوريا بأن محاولة الرئيس جاكوب زوما سحب جنوب أفريقيا من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية كانت غير دستورية وباطلة. ومن الناحية العملية، سيحتاجُ الرئيس زوما إلى موافقةٍ برلمانية إن أراد السير في هذا الطريق. وبالنظر إلى الحساب البرلماني، فمِن المرجح أن ينجح.

تضمنت أسباب الرئيس زوما للانسحاب من المحكمة القول بأن عضويتها تُعرقل دور جنوب أفريقيا بوصفها فاعلاً إقليمياً ووسيطاً للنزاع. تلك حُجة يُصعب إثباتها.

في 17 يوليو / تموز 1998، أقرّ الرئيس نيلسون مانديلا التصديق على نظام روما الأساسي، مما جعل جنوب أفريقيا الدولة ال 23 لتصبح عضواً في المحكمة الجنائية الدولية. وبعد ثمانية عشر شهراً قبل دوره كوسيطٍ للسلام في بوروندي في المفاوضات التي أدت في الوقت المناسب إلى اتفاقٍ لتقاسم السلطة في نوفمبر / تشرين الثاني 2001. من البيّن أن مانديلا رأى أن عضوية المحكمة الجنائية الدولية وقوة جنوب أفريقيا الإيجابية في السلام الإقليمي أفكار متوافقة تماماً.

لعب الرئيس تابو مبيكي دوراً هاما في المفاوضات في ليبريا (بنجاح) وساحل العاج (بشكل أقل من ذلك). وبينما جادل بوجوب أن تكون الأولوية للسلام في حالات الصراع، فإنه لا يقترح عدم حتمية إقامة العدل. الأمر بالنسبة له هو مسألة متى وكيف. وبالفعل أدانت محكمة دولية، هي المحكمة الخاصة لسيراليون، الرئيس الليبري السابق تشارلز تايلور لجرائمه في الحرب الأهلية في ذلك البلد. وفي ساحل العاج لا يزال هناك عدم استقرار سياسي وتوتر مُتَقَطّع، ولكن المحكمة الجنائية الدولية لم تكن عائقاً أمام النمو الاقتصادي القوي للبلد. وقد لعب مبيكي، مهما كانت مخاوفه، دوراً هاماً في إظهار أن العدالة والسلام، وإن كانا معقدين، يمكن أن يعملا معاً، وأن جنوب أفريقيا يمكن أن تؤدي دورا هاما في ذلك.

الحجة الثانية التي طُرحت هي أنّ المحكمة أظهرت نفسها "غير مناسبة للغرض". من الصعب معرفة ما يشير إليه هذا على وجه التحديد. قد يكون انتقاداً أنها لم تفعل ما يكفي لمكافحة الإفلات من العقاب، ولكن يبدو من الأرجح أنها تتعلق بالانتقادات بأن المحكمة تُركز بشكل غيرِ متناسبٍ على البلدان الأفريقية، ومن ثم فإنها تُظهر اتجاهات استعمارية جديدة.

السياسة وراء "عمليات الانسحاب الجماعي"

يُظهر النشاط الدبلوماسي الأخير أن هذه المسألة بعيدة كل البعد عن مسألة واضحة. كان قرار الاتحاد الأفريقي بشأن "الانسحاب الجماعي" من المحكمة الجنائية الدولية رسالة سياسية أكثر من خطة العمل. إنها رسالة يَنبغي أن تُؤخذ على محمل الجَدّ، بطبيعة الحال، ولكنها رسالة دقيقة. أبدى عدد من دول الاتحاد الافريقي، الكبيرة منها والصغيرة، تحفظات على القرار، في حين كان العديد من الدول الأخرى مؤيدين جِدّيّين لصالح المحكمة. إنهم ليسوا مؤيدين بدون اعتراضات لكنهم يعتقدون أن المحكمة، مرددين رأي الرئيس الجديد في غامبيا آدما بارو، هي قوة جيدة وتحتاج إلى دعم أكثر من المعارضة. باختصار، ليس هناك وجهة نظر موحدة في الاتحاد الأفريقي أن المحكمة الجنائية الدولية ليست مناسبة للغرض أو أنها حقاً مؤسسة استعمارية جديدة.

في هذه اللحظة التاريخية التي تُواجه برلمان جنوب أفريقيا، يجدرُ بنا أن نتذكر الأمل الكبير الذي أتى بظهور المحكمة الجنائية الدولية. لقد كان عقداً عندما تحررت البلدان من أغلال الشمولية والفصل العنصري. كانت فترة اِعتقد فيها الكثيرون بإمكانية التقدم والتنمية القائمة على قيم العدالة وسيادة القانون. لم تجُسّد أي بلد هذا الأمل وهذا الواقع أكثر قوة وأكثر إلهاماً من جنوب افريقيا.

كونها واحدة من أولى الدول التي صدقت على نظام روما الأساسي عبّرت جنوب أفريقيا عن التزامها بالعدالة وسيادة القانون على المستويين الوطني والدولي. لقد كانت جنوب أفريقيا منارة لنظام دوليّ قائم على العدل والكرامة للجميع. لم تكن هذه هي قيم الغرب. أو الشمال. كانت قيم جنوب أفريقيا كما الجميع.

برلمان جنوب أفريقيا على موعد مع القدر. سيتعين عليهم الاختيار بين السباحة مع تيار الدمار الذي يسعى إلى اكتساح 70 عاماً من العمل لبناء نظام دولي يطمح إلى كفالة الكرامة للجميع. أو السباحة ضد هذا المد وتسخير الطاقة التي ألهمت العالم لثني قوس العدالة قبل 25 عاماً.

لم يكن مانديلا ساذجاً. كان يعلمُ أن نضال جنوب أفريقيا سيكون طويلاً وشاقاً، ورأى عدداً لا يحصى من النفاق والعيوب في العالم ومؤسساته. أكان جوابه التراجع؟ لا. كان الجواب الخلق والإلهام. هذه هي لحظة للرؤية والعبقرية، وليست لعباراتٍ منكهة عن الخوف. وهذا هو بالضبط الدور الذي يتعين على برلمان جنوب أفريقيا أن يُطالب به نفسه ورئيسه. هذه أوقات منكودة. وبإمكان برلمان جنوب أفريقيا أن يساعد على رفع المقاييس لصالح العدالة والكرامة.


*نيلسون مانديلا، نائب رئيس المؤتمر الوطني الأفريقي لجنوب أفريقيا في ذلك الوقت، يثير بقبضته في الهواء أثناء مخاطبة اللجنة الخاصة لمناهضة الفصل العنصري في قاعة الجمعية العامة.(UN Photo/P. Sudhakaran)*