"الزِلزالُ الذي يَبني": تأثيرُ جلسات الاستماع العلنية في تونس

25/03/2017

"تونس تربح. لا عودة للوراء."

هذا ما نشرته سلوى القنطري، مديرة مكتب المركز الدولي للعدالة الانتقالية في تونس، على صفحتها على الفيسبوك بعد أن عقدت هيئة الحقيقة والكرامة في البلد أولى جلساتها العلنية للاستماع في نوفمبر / تشرين الثاني، وكان هذا الإحساس في كافة أنحاء تونس في ذلك اليوم التاريخي . شهد الضحايا علناً للمرة الأولى عن الانتهاكاتِ التي تعرضوا لها في ظلّ الدكتاتوريات الُمتعاقبة. بعد 60 عاماً من القمع، كانت الحقيقة حول هذا الماضي المُؤلم تُبثّ على التلفاز الوطنيّ، وتُشاهد عبر الإنترنت من قِبل عشرات الآلاف في جميع أنحاء العالم. كان هذا إنجازًا جَلِيلاً.

والآن، وبعد مرور أربعة أشهرٍ على تلك الشهادات الأولى التاريخية، يواصلُ الضحايا تسليطَ الضوء على الحقيقة من خلال جلسات الاستماع العلنية الجارية. غيرّت قصصهم بشكلٍ محوريّ النقاش حول الماضي في تونس. احتفالًا باليوم العالمي للحق في معرفة الحقيقة، يجتمعُ مدير برنامج التواصل في المركز الدولي للعدالة الانتقالية رفيك هودجيج، مع امرأتين كان عملهما حاسماً في نجاح الهيئة - سلوى القنطري وابتهال عبد اللطيف أحد أعضاء الهيئة- لمناقشة ما خلصوا إليه من الجلسات حتى الآن.

رفيك هودجيج: كانت التوقعات من جلسات الاستماع العلنية الأولى في تونس مستقطبة مثل المشهد السياسي، فالبعض اعتقد أنها ستجلب المصالحة، بينما رأى البعض الآخر أنها قد تزعزعُ استقرار البلاد. كان المناخُ المجتمعيّ مشحونًا بشكلٍ لا يصدق. كيف كانت توقعاتكما وآمالكما؟

ابتهال عبد اللطيف: كان لديّ توقعات عالية جداً بشأن هذه الجلسات العلنية. اعتقدتُ حقًا أن سيكون لها تأثيراً كبيراً على مجتمعنا لأن التونسيين سوف يصدمون عند اكتشاف حجم الفظائع التي تحمّلها الضحايا. سألني صحفيُُ قبَل جلسة الاستماع العلنية الأولى عن رأيي في التأثير المُحتمل. قلتُ أنّ جلسات الاستماع العامة ستكون مثل الزلزال، وهذا ما حدث بالضبط. غيرّ الزلازل كل شيء. هذا الزلزال لم يهدم؛ بَنَى. كَشفَ عن كنزٍ وتسبّب في تحوّل كبير.

سلوى القنطري: كنتُ أتمنى أن تجلب جلسات الاستماع العامة أخيرًا لمجتمعنا الحقيقة التي كنّا نعملُ على جعل الناس يرونها ويفهمونها. ولأن هيئة الحقيقة والمصالحة تشتغلُ في بيئة سياسية وإعلامية معادية للغاية، كان من الصعب جعل أولئك الذين لم يكونوا ضحايا قط، والذين لم يسبق لهم أي صلةٍ بالضحايا، فهم حقوق الضحايا ومعاناتهم. كانت جلسات الاستماع العامة بمثابة الذهاب إلى شخص غير قادر أو لا يريد رؤية الحقيقة، ووَضع الحقيقة أمامه. تهزّه وتقول له: "انظر أمامك، هذا ما كنت أتحدث عنه إليك!"


رفيك هودجيج يحاور سلوى القنطري وابتهال عبد اللطيف. (Sam McCann/ICTJ)

رفيك هودجيج: ما هي المخاوف وعوامل القلق الرئيسية التي يثيرها اقتراب جلسات الاستماع؟

ابتهال عبد اللطيف: هناك مخاوف بالطبع. هل ستشوه وسائل الإعلام بعض الضحايا؟ كيف ستتفاعل أسر الضحايا؟ قال العديد من وسائل الإعلام التونسية والعديد من البرلمانيين أن جلسات الاستماع العامة سوف تسبب في أزمةٍ في مجتمعنا وزعزعة استقرار البلاد، مستخدمين لغة مُحَمّلة جداً. قال بعض الأشخاص أن الضحايا سيقتلون في حالة تسميتهم للجناة. البعضُ منّا كان قلقاً بشأن شهادة النساء، ورأى البعض إخفاء وجوههم وهوياتهم. كانت هناك كل أنواع المخاوف، بما في ذلك المخاوف على أمنهم.

وفي هذا السياق الحسّاس عقدنا جلسات الاستماع العلنية. أخذنا أمن الضحايا وكرامتهم كمسؤوليتنا الأوليّة، لأننا لم نرغب في إعادة معايشة الضحايا للصدمة. نفذنا إجراءات ونظّمنا اجتماعات كثيرة مع خبراء للتأّكد من أنّ الضحايا يمكنهم الإدلاء بشهاداتهم بحرية وأمان، وأنّ علاقاتهم مع أحبائهم ستظل آمنة. كما قدمنا أخصائيين نفسيين خلال جلسات الاستماع للمساعدة في دعم الضحايا خلال الشهادات العامة. وبطبيعة الحال، بعد جلسات الاستماع الأولى، تسهلت الأمور. كنّا نأمل أن نغلق الصفحة الأخيرة من فصل الديكتاتورية وأن نفتح صفحة ديمقراطية جديدة. لقد عملنا تحت ضغط كبير، لكننا كنّا نؤمن بعملنا.

سلوى القنطري: لم يكن خوفي تأثير الحملة السلبية على المواطنين، لأنيّ في أعماقي كنت مقتنعة نوعاً ما بأن الناس سيفهمون أخيراً عندما يتكلم الضحايا. بدلاً من ذلك، كنت أحبس أنفاسي في يوم جلسة الاستماع مخافة أن يحدث أي خطأ يعطل الإجراءات. لأنه بمجرد أن تبدأ، كنتُ أعرف أننا تجاوزنا نقطة عدمِ العودة. وبالنسبة لأولئك الذين كانوا يعيشون في حالة إنكار، فجلساتِ الاستماع العلنية جعلتهم يواجهون الحقيقة. البحر أزرق، سَوَاء أردت وصفه بأنه أحمر، أصفر، أو أسود.

رفيك هودجيج: كانت شهادات النساء في صميم ما تمثله هذه الجلسات لجميع التونسيين. ومع ذلك، كان كثير من الناس يقول: "حسناً، إنه مجتمع متحفظ للغاية، ومن الصعب جداً على النساء أن تتقدم بشهادتهن، لا أعتقد أنهنّ سوف يستطعن الإدلاء بالقصة كاملة". في هذا السياق، ما كانت مخاوفكما على وجه التحديد عندما يتعلق الأمر بمَصْلَحَة النساء وما يفترض بهن كشفه في جلسات الاستماع العلنية؟

ابتهال عبد اللطيف: لم يكن كل شيء مثالياً بعد جلسات الاستماع العامة في هذا الصدد. كتب بعض النشطاء الذكور على صفحاتهم على الفيسبوك أنه من المُخجل أن تتحدث النساء عن العنف الجنسي في جلسات الاستماع العامة. وقال بعضهم إن كانوا فلسطينيين أو جزائريين لكانوا "أكثر فخراً"، ولم يكونوا ليتكلموا عن تلك التجارب علناً. في نهاية المطاف، أعتقد أنهم قالوا هذه الأشياء لأنهم كانوا غيورين أننّا اخترنا هؤلاء النساء للإدلاء بشهادتهن بدلا منهم. ولكن هذه الهجمات لم تردع النساء. أجريتُ إسْتِقْصاءاً عن النساء اللواتي قدمن شهادتهن إلى هيئة الحقيقة والكرامة، وقال 66 في المائة أنهن يرغبن في المشاركة في جلسات الاستماع العلنية وأن يقدمن شهادتهن دون أي حماية لهويتهن. وحتى أولئك اللاتي قلن في البداية أنهنّ لا يرغبن في أن تكون شهادتهن علنية اتصلن بي بعد جلسات الاستماع العلنية لإخباري بأنهن بدّلن رأيهن ويردن البلد سماع ما سيقلنه.


** شهادات النساء**

رفيك هودجيج: وما تأثير هذه الشهادات العامة على إدراك حقوق النساء في تونس؟

ابتهال عبد اللطيف: كسرت جلسات الاستماع العامة الصورة النمطية التي رُوّجت لأكثر من ستين عاماً بأنّ تونس كمِثل جنّة للنساء. الحقيقة التي أتاحتها هيئة الحقيقة والكرامة للجمهور تكشفُ عن صورةٍ أخرى: قد تكون هناك مساواة رمزية بين الرجال والنساء، ولكنها ليست هناك بين النساء وغيرهن من النساء. لدينا العديد من القوانين التي هي الأفضل بين الدول العربية، ولكن من يستفيد من هذه القوانين؟ ليس كلّ النساء. لسوء الحظ، كما شهدت إحدى الضحايا في 10 مارس، كان يُنظر إلى بعض المنظمات غير الحكومية على أنها "نخبوية جدا" ولا تعمل على المساواة بين النساء. إن كنت معارضاً للحكومة، تفقد حقوقك كمواطن. أنت لست تونسياً. إذا كان لديك ثوباً خاصاً، لم يكن لديك هذه الحقوق.

أعتقد أن عرض هذه الحقيقة في جلسات الاستماع العلنية صدمت الكثير من الناس.

سلوى القنطري: كنتُ في جلسة الاستماع العلنية حول النساء، وعندما أعلنت الضحية الأخيرة نجاة عيشاوي أن ما تريده الآن هو تضامن النساء مع النساء، التفتُ إلى زوجي وقلتُ له: "أليست هذه النسوية الحقيقية: تضامن النساء مع النساء؟"

رفيك هودجيج: ما هو نوع الردود التي حصل عليها الضحايا من أحبائهم؟

ابتهال عبد اللطيف: أحد الضحايا اللاتي شهدن لديها ابنة في الخارج تعملُ في شركة طيران. رأيتُ هذه الفتاة على شاشة التلفاز في عام 2012 متحدثة جنباً إلى جنب مع والدتها. قالت أنها شعرت بالأسى لأمها: "أنا أحبها، ولكن أشعرُ بالمرارة. رؤيتها تجعلني أشعر بالأسف إزاء مصير والدتي ولا أريد ما حدث لها أن يحدث لي". ولكن الآن، بعد جلسات الاستماع العامة، فهي فخورة. عندما شهدت والدتها أقام القبطان والطاقم الذي تعمل معه في شركة الطيران حفلاً كبيرا لها وأحضروا زهورهاً. هي تحتفلُ الآن بشهادة والدتها مع زملائها.

ضحايا آخرون لديهم قصص مماثلة. أحد الضحايا الذين صدمت حقاً شهادته البلد هاتفني باكياً دموع الفرح بعد جلسة الاستماع. قال لي: "لقد تصالحتُ مع عائلتي". بعد سجنه وتعذيبه طلبت عائلته منه أن يُغادر وكان يشعر بأنه عبء. حتى قبل جلسات الاستماع طلب منه أخوه عدم التحدث علناً. قالوا له: "الألم الذي جلبته إلينا كان كافياً، من فضلك لا تتكلم". كان متردداً في الإدلاء بشهادته، ولكن قبل 15 دقيقة من جلسات الاستماع، أرسل إليه شقيقه رسالة تقول: "أنت حر في أن تفعل ما تريد."

وعليه فقد شَهِد. يقول إنه حذف العديد من التفاصيل لأنّه لا يريد أن يضرّ عائلته أكثر. ولكن بعد أن أدلى بشهادته، كان هناك تنفيساً من نوعٍ ما في عائلته، هاتفوه لإخباره كيف أنهم فخورون به وطلبوا الصفح منه. الآن، جميع عائلته تزوره هو وزوجته. تم جمع شملهم. وهو ليس حالة فريدة. لدي العديد من الرسائل من رجال ونساء، وأول ما يقولونه هو "أنتم حققتم أحلامنا في المصالحة بيني وبين عائلتي". رُفض العديد منهم من قبِل عائلاتهم لسنوات، وقالت عائلاتهم أنها خجلةً منهم . لكنهم الآن مصدر فخر.



رفيك هودجيج: إذن، هل يمكن القول أن جلسات الاستماع كانت ناجحة لهيئة الحقيقة والكرامة؟

ابتهال عبد اللطيف: آملي الكبير كان في أن تُوّحد جلسات الاستماع المجتمع حول فكرة واحدة: الكرامة. كيف يمكنك توحيد مجتمع مُتَفَرّق بسبب أيديولوجيات ومن قبل الأحزاب السياسية و من قبل وسائل الإعلام؟

قبل جلسات الاستماع العامة حذّر بعض الناس من الضحايا الذين يسمون الجناة خشيةَ الانتقام. ولكن في الواقع، في الحالات التي قام فيها الضحايا بذلك بالضبط، جاء العديد من الجُناة إلى هيئة الحقيقة والكرامة في اليوم التالي لطلب الغفران. واتصل آخرون بالضحايا مباشرة. والأهم من ذلك، يسرني أن أرى أن العديد من ضباط الشرطة، حتى أولئك الذين لم يكونوا مسؤولين عن الانتهاكات، هاتفوا وذهبوا إلى منازل الضحايا لطلب إعفائهم باسم كل الشرطة.

سلوى القنطري: لقد كان نجاحاً. بعد اليوم الأول من جلسات الاستماع، كتبتُ على الفيسبوك: "تونس تربح. لا عودة للوراء". كانت جلسات الاستماع العامة حاسمة جداً لأنه في اضطرابات بعد الثورة كل شيء تبدل رأساً على عقب. لدينا دستور جديد والناس في الشوارع، تغير كل شيء في فترة قصيرة جداً. لذلك أعتقدُ أن الناس بحاجة إلى الاجتماع معاً وسماع بعضهم البعض.

حتى يومنا هذا، لا أعرف أي شخص من أي أيديولوجية سياسية رفض قصة أي ضحية. كانوا بحاجة فقط إلى فهم القصة من البداية إلى النهاية خارج وسائل الإعلام أو الأحزاب السياسية لأن خطابهم له تأثير هائل و لسوء الحظ سلبي.

وبسبب هذا التأثير السلبي المتكرر لم يُدرك الجميع دور هيئة الحقيقة والكرامة. لم تكن أداة للانتقام. ما فعلته هو استحضار الأيديولوجيات السياسية في العراء وخلق حوار. لدينا أشخاص يستخدمون أسماء اِزْدِرَائِيّة للإسلاميين، أو تهميش أولئك الذين يعلنون أنهم شيوعيون من أي نقاش. ولكن خلال جلسات الاستماع، تحدث رجل قُتل شقيقه تحت التعذيب لكونه شيوعياً. بطريقة ما، واجه الشعب بأسره عندما قال: "نعم، كان شيوعياً ونحن شيوعيون وما هي المشكلة في الشيوعية؟" شهد الإسلاميون. شهد الشيوعيون. شهد الليبراليون. النقطة هي: ألا تُقوض عقيدتك حَقك في الوصول إلى الحقوق. وكان إعطاء صوتاً لهذه الرسالة انتصاراً لجلساتِ الاستماع العلنية.

ابتهال عبد اللطيف: أوافقك. ألقت جلسات الاستماع العامة ضوءاً ثميناً على ضرورة مناقشة الخلافات الأيديولوجية علناً. أتى الضحايا قدما قائلين: "نريد أن نتحدث معك، وأن نقيم حواراً، ولكن لا تعذبني. يمكنك أن تقبلني وأقبلك و يمكننا العيش معاً ".

كان لجلسات الاستماع تأثيراً هائلاً. على سبيل المثال، يفقد بعض المشاهير الذين لديهم عدد ضخم من المتابعين الكثير من مُشجعيهم نتيجة قولهم شيئاً ساخراً [أو رافضاً] عن بعض الضحايا الذين شهدوا في جلسات الاستماع العامة. إنه تحول كامل في النَفْسِيّة: لا يمكنك الوقوف ضد الأمواج والآن هناك موجة من الدعم للضحايا. إذا حاولت إيذاءهم أو مهاجمتهم، فسوف تكون معزولاً في هذا المجتمع.

رفيك هودجيج: في رأيكما ما هو أثر تغطية التلفاز والإنترنت لجلساتِ الاستماع العامة؟

ابتهال عبد اللطيف: أعتقد أن عمل هيئة الحقيقة أصبح أسهل مما كان عليه في الماضي. يتم بث المعلومات والشهادات مباشرة إلى المواطنين وهو ما نحتاجه. مشاركة شبكات التلفاز، ولا سيما التلفزيون الوطني، ضرورية. نحصلُ على العديد من التعليقات قائلة: "هل نحن نحلم؟ لا يمكننا تصوّر أن التلفزيون الوطني الذي كان يبث صوتاً واحداً فقط، صوت الدولة، صوت دعاية الدكتاتورية، يبث الآن صوت نساء يتحدثن عما فعله النظام لهنّ".

هذه الحرية مُهمة بالنسبة لنا، وخاصة بالنظر إلى أنّ هيئة الحقيقة والكرامة هي نفسها جزء من الدولة. نحنُ نمثل الدولة - لسنا حزباً مستقلاً أو حزباً سياسياً. نحن مؤسسة مستقلة والتي هي جزء من الدولة وتتلقى ميزانية من البرلمان. من المهم أن نرى الدولة اُنتقدت من قِبل مؤسسة للدولة.

وأدى البث على التلفزيون الوطني والتغطية عبر الإنترنت إلى قلب العديد من الأحكام المُسبقة، على سبيل المثال، أن هؤلاء الضحايا يريدون فقط التعويض، يريدون المال. في الواقع، ما تراه على البث هو أنهم يريدون الحقيقة. يقولون: "أريدك أن تسمعني، لستُ بحاجة إلى أي شيء منك. إنّ كل أموال العالم لا يمكن أن تعوضني ". هذا أيضا صدم المواطنين وجعل الناس يدركون أن الحقيقة ثمينة، ثمينة جداً لهؤلاء الضحايا والمجتمع.

أما التَحَامُل الثاني فهو الانتقام، وأن الضحايا يريدون الانتقام. رأى الكثيرون أن هيئة الحقيقة والكرامة أداة للانتقام. ولكن خلال جلسات الاستماع العامة، شاهدوا أن رؤية الضحايا للمستقبل تَركزُ على الغفران. ولم يكن ذلك لصالح الضحايا: بل هديتهم للمجتمع. وكانت هذه فرصة للجناة للمصالحة - ليس فقط مع الضحايا ولكن مع المجتمع ككل، مع أطفالهم، مع أسرهم.

سلوى القنطري: في تونس، هناك تصور بأن المناقشة العامة حول السياسة أو حقوق الإنسان محفوظة للنخبة. ولكن جلسات الاستماع العامة سمحت لنا بسماع قصص من أشخاص أتوا من خلفيات مُهمشة. لا يحتاجون إلى الحصول على درجة الماجستير أو درجة الدكتوراه في هذا المجال أو ذاك لأجل الحديث - هم يعلمون جيداً ما حدث لهم وكيف يَرون بلدهم. وقد أتاح لهم الإنترنت والبث التلفزيوني المنصة لأول مرة.



رفيك هودجيج: كل بلد، وكل مجتمع، وخاصة ذلك الذي يَمرّ بمرحلة انتقالية، يحتاج إلى سرد قوي يبني عليه هويته. هل يمكنكما القول بأن جلسات الاستماع العامة قد غيرت الطريقة التي يرى بها البلد نفسه؟

ابتهال عبد اللطيف: أعتقد أن أفضل مثال على هذا التحوّل في كيفية رؤيتنا لأنفسنا هو ما قامت به جلسات الاستماع العامة من توليد للتعاطف مع أولئك الذين لأسباب مختلفة انتهوا إلى السجن، حتى لو كانوا لصوصاً أو مجرمين عاديين. وذلك لأن كثيراً من الناس يدركون الآن ما حدث في السجون أثناء الديكتاتورية. نرى الآن حتى البرلمانيين يترددون في سن قوانين ذات عقوباتٍ صارمة، لأنهم يعرفون أن نظام السجون لدينا لم يجر إصلاحه. ليس هناك كرامة. أصبح ذلك جلياً في جلسات الاستماع العلنية. كما شجعت جلسات الاستماع العامة العديد من طلاب التاريخ وعلم الاجتماع على العَمل على تاريخنا. للبحث وإعادة كتابة التاريخ. لن يقبلوا حقيقةً حُرفت. لن يقبلوا عقيدة مُسَلَّمَة. هذا هو الزلزال الذي يَبني.

سلوى القنطري: أعتقد أن أحد الآثار الإيجابية لجلساتِ الاستماع العلنية هو الإدراك الذي بدأ في مراقبة سياسة الدولة في مكافحة الإرهاب. للأسف، لم يضطلع جهاز السياسات بأي إصلاح مؤسسي. وبعد الهجمات الإرهابية في عام 2015 شهدنا العديد من انتهاكات حقوق الإنسان، وخاصة التعذيب، التي اُرتكبت ضد من يشتبه في تورطهم بشكلٍ ما، وبعضها أكثر فظاعة ممّا حدث في ظل الدكتاتورية. عديد من الأشخاص تعرضوا لهذا لمجرد الصلاة في مسجد معين. وأثارت جلسات الاستماع العامة هذا النوع من الوعي لدى الناس بأن القمع يؤدي دائماً إلى دورة من العنف، ويؤدي إلى انفجارٍ لا نحتاج إليه في هذا المجتمع. إذا سمحت للناس بممارسة دينهم بحرية، فلن يلجأوا إلى التطرف. أولئك الذين يُروجون لاعتقاد خاطئ أو سوء فهم للإسلام لن يجدوا أرضاً خصبة إذا سُمح للناس بالحرية. وهذا أمر حاسم لأي أمل في مكافحة التطرف في تونس بنجاح.

رفيك هودجيج: هل هناك لحظة من جلسات الاستماع العلنية هذه تعيش معكما؟ لحظة من شأنها أن تبقى معك حياتك كلها؟

ابتهال عبد اللطيف: بالطبع، هناك الكثير بالنسبة لي. ولكن ربما لأنّ جلسة الاستماع العلنية الأولى كان لها تأثير كبير علىّ، فالجمل الأخيرة من شهادة سامي براهم باقية. قال إن الديكتاتورية سعت إلى تعقيم كل شيء. العقم ليس فقط للجسد، ولكن للقلب والعقل والروح. قال أنهم أرادوا اقتلاع جيله كما لو كان فيروساً.

لكنهم فشلوا. لديه الآن فتاة جميلة. واستمر في دراسته وكان من أوائل دفعته. هذه رسالة أمل. أستمعُ إلى قصته، كما لو كنتُ أشاهد شخصاً يقف من قبره. هذه هي الصورة: أن الدكتاتورية فشلت. يمكنك سجنه، يمكنك تعذيبه، ولكن لا يمكنك كسر الطاقة التي صنعها الله فيه، هذه الروح.

هؤلاء الناس الذين دُفنوا وانبعثوا مرة أخرى، هؤلاء الناس بالنسبة لي هم الصورة الدائمة. إذا سألتني ماذا تعني العدالة بالنسبة لي، سأقول تعني هؤلاء الناس.


**شهادة سامي براهم**

سلوى القنطري: لحظة واحدة هزتني حقاً عندما سمعتها في إحدى جلسات الاستماع العامة. وكانت شهادة محرزية بن عابد، وهي تتحدث عن تعذيبها في وزارة الداخلية. سردت قصة عن إحدى تلك الليالي العديدة التي تعرضت خلالها للتعذيب، وكيف بعد أن أنهوا تعذيبها وأعادوها إلى زنزانتها، كان ضابطان شرطة يتحدثان مع بعضهما البعض. سأل الأول: "هل انتهت؟" قال الثاني نعم، انتهى التعذيب، فأجاب الأول، "الحمد لله."

بقيت هذه العبارة معي. "الحمد لله أنها حية؟" هؤلاء جناة يتحدثون. وبالنسبة لي، فهذا يدل على أنه يجب علينا أن نركز أكثر على كيف يمكن للناس الذين هم تحت الأوامر أن يفقدوا الكثير من إنسانيتهم، ولكن حتى في هذه الحالات هناك بشرية قليلة متبقية يمكن أن نُيقظها، أن نصلحها، أن نجعلها تبصر الحقيقة.


**للمشاهدة: شهادة محرزية بن عابد**

رفيك هودجيج: هذا الضوء الصغير يُظهر أن هناك طريقاً

سلوى القنطري: هناك طريقاً، نحن بحاجة فقط لمعرفة كيفية العمل بشكلٍ صحيح على ذلك. وذلك يبين أن هذا ليس مشروعاً لرفض الناس. هذه عملية لإعادة الناس إلى الطريق الصحيح حتى نتمكن من التعايش السلمي وقبول بعضنا البعض في كل خلافاتنا وأوجه الخلل.


  • التقطت الصور من جلسات الاستماع العامة التي تعقدها هيئة الحقيقة والكرامة التونسية (TDC).*