تقرير البرامج للمركز الدولي للعدالة الانتقالية: الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

12/09/2012

امرأة تونسية تدلي بصوتها في الانتخابات البلدية في مركز اقتراع في تونس، 9 أيار/مايو 2010. (فتحي بلاد/أ ف ب/Getty Images)


يستكشف أحدث تقرير للبرامج في المركز الدولي للعدالة الانتقالية قضايا العدالة الانتقالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ويرصد أنشطة المركز في هذه المنطقة المهمة والدينامية.

في هذا التقرير، يناقش كلاوديو كوردوني، مدير دائرة البرامج لدى المركز الدولي للعدالة الانتقالية والمستشار الخاص لرئيس المركز في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، حول السيناريوهات الخاصة ببعض دول المنطقة، وآفاق عمليات العدالة الانتقالية فيها، ونستوضح منه دور المركز الدولي للعدالة الانتقالية وآثاره على البلدان المعنية.

يتحدث كوردوني عن مبادئ العدالة الانتقالية باعتبارها كامنة في جذور الانتفاضات الشعبية التي يشار إليها إجمالاً بـ"الربيع العربي"، والتحديات التي تواجه المجتمعات وهي تسعى للتصدي للإرث الثقيل الذي خلفته أنظمة الحكم الديكتاتوري وأعمال العنف الأخيرة. ويصف كوردوني جهود المركز في معالجة آثار العنف على المرأة، وتعزيز مشاركتها في مبادرات العدالة الانتقالية. ويقدم هذا اللقاء لمحة شاملة عن المبادرات المستمرة، وآفاق المستقبل في تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن ولبنان وإسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلّة.

نأمل أن يسلط هذا اللقاء الجديد مزيداً من الضوء على الدور الحيوي للعدالة الانتقالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ونرحب بتعليقاتكم وآرائكم؛ الرجاء إرسالها إلى mena@ictj.org، أو الاتصال بنا على الصفحة الخاصة بنا على فايسبوك وتويتر.


لعل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكثر مناطق العالم نشاطاً ودينامية من منظور عمليات العدالة الانتقالية. فقد أشعلت المطالبات بالعدالة والحقيقة والمحاسبة والانتفاضات الشعبية في بلدان المنطقة من تونس إلى اليمن، مما أسفر عن تغيرات هائلة اجتاحت المنطقة. ولكن المشهد لا يزال بالغ التعقيد حتى الآن. لقد عمل المركز الدولي للعدالة الانتقالية لعدة سنوات في بلدان مثل المغرب، لبنان، الجزائر، و اسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة ، مما يجعله مهيأً لتقديم المساعدة لشركائه في الحكومات والمجتمع المدني الذين يلتمسون السبل لمعالجة الإرث الثقيل من انتهاكات حقوق الإنسان. فما هي التحديات الأشد إلحاحاً، وأبرز السيناريوهات المبشرة بالأمل في المنطقة في هذا السياق؟

لقد شهدنا خلال العام ونصف العام الماضيين في مختلف أنحاء المنطقة مطالبات مدوية بالعدالة الاجتماعية وبوضع حد للقمع، والتحرر من الخوف والعوز في أروع أمثلتها.

وأعقبت ذلك سلسلة من ردود الفعل الخرقاء من جانب الأنظمة التي بدا جلياً أنها لم تكن تعرف شيئاً سوى كيف تقمع تلك المطالب بدرجات متباينة من العنف. وللأسف أن البعض لم يتعظوا من الإطاحة ببن علي ومبارك، وإنما اعتبروها درساً لهم بألا يذعنوا لمطالب المتظاهرين في الشوارع ولا يقدموا لهم أي تنازلات؛ ليس عليهم سوى سحق الثورات بكل ما تيسر لهم من العنف؛ وهذا هو ما نشهده في سوريا.

مهما يكن من الأمر، فلم تُخمد أي انتفاضة. فها نحن نشهد في تونس عملية راسخة من التحول والانتقال الديمقراطي. أما مصر فقد تكون أخيراً على أعتاب تغير في النظام يبسط فيه المدنيون سيطرتهم على الجيش. ولا يزال السوريون يخوضون قتالاً في الشوارع؛ أما البلدان التي شهدت نوعاً ما من التسوية، مثل البحرين واليمن، فلم يتحقق فيها الاستقرار المنشود، إذ لم تتم معالجة المظالم الأساسية، وبالتالي فهي تختفِ.

لقد كان ما حدث مثار دهشة للكثيرين أول الأمر، بما في ذلك الحكومات الأجنبية ومنظمات حقوق الإنسان، إذ هالتهم قوة الغضب الشعبي، وما أبدته الجماهير من استعداد للذهاب إلى أبعد الحدود لوضع حد للقمع والخلاص منه إلى غير رجعة. وها نحن الآن نشهد كيف تتحول الثورات إلى عمليات انتقالية فريدة وطويلة الأمد في الكثير من البلدان. فما هي التصورات السائدة لمفهوم العدالة الانتقالية في المنطقة؟ وهل يُنظر إليها على أنها ظاهرة دخيلة مفروضة على المنطقة من الخارج من حيث الأفكار والأيديولوجية؟

إذا ابتعدنا عن المصطلحات والمفاهيم، وتحدثنا عن الجوهر فحسب، فسوف نرى أن الناس يفكرون ويتحدثون عن العدالة الانتقالية. قد لا يستخدمون مصطلح"جبر الضرر،" ولكنهم يتحدثون عن ضرورة الاعتراف بالضحايا وتعويضهم. قد لا يتحدثون عن "تخليد الذكرى" أو "البحث عن الحقيقة،"ولكنهم يريدون أن يعرفوا ما حدث للمفقودين. ربما لا يستخدمون كلمة "محاسبة،" في وصف ما يريدونه، ولكنهم يريدون أن ينال الجناة العقاب الذي يستحقونه، وقد لا يتفق المركز الدولي للعدالة الانتقالية أحياناً مع بعض أشكال العقاب التي يطالبون بها، ولكن مفهوم العقاب على الجرائم قائم بكل تأكيد وبكل قوة.     Image removed.

ومن ثم فإن جميع عناصر ما نسميه العدالة الانتقالية موجودة إلى حد كبير، وهي تكتسي أهمية واقعية وثيقة الصلة بحياة الناس.

كثيراً ما يلمس المركز الدولي للعدالة الانتقالية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إنطباعاً سائداً بازدواجية المعايير التي يطبقها المجتمع الدولي فيما يتعلق بالمحاسبة عن انتهاكات حقوق الإنسان. وكثيراً ما يُستشهد في هذا الصدد بسرعة تحرك مجلس الأمن الدولي ومسارعته بإحالة ملف ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية على النقيض من غياب أي تحرك للمجلس في حالة سوريا الآن. وتبرز دائماً قضية الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلّة التي يتجاهلها المجتمع الدولي إلى حد بعيد، وهكذا. فهل يزيد هذا من صعوبة العمل الذي تقوم به أي منظمة دولية لتعزيز مفاهيم العدالة الانتقالية في المنطقة؟

لقد كانت هناك بكل تأكيد ازدواجية للمعايير من جانب الغرب؛ ولكن ليس من جانب الغرب وحده، بل حتى روسيا والصين هما الأخريان. كما أن الدعم الذي قدمته بعض الدول الإفريقية للقذافي هو مثال جيد لتلك الازدواجية أيضاً. فلم تكد تهب رياح التغيير، حتى غيرت الدول المؤيدة مواقفها وأصبحت تعارضه؛ وكما نعلم، فإن بعض الدول التي كانت صديقة للقذافي شنت الحرب عليه.

وهذا الأمر يخلق صعوبة بلا شك لأنه قد يتعسر على الناس أحياناً التمييز، مثلاً، بين ما تفعله المحكمة الجنائية الدولية والقرارات السياسية لمجلس الأمن الدولي فيما يتعلق بهذه المحكمة. ولما كان الكثير من الضجيح حول العدالة يأتي من الغرب، فقد يكون لزاماً علينا أحياناً تبيان الفرق بين ما تفعله منظمة مثل المركز الدولي للعدالة الانتقالية والأنشطة التي تقوم بها حكومات معينة.

هل لك أن تستعرض معنا تواجد المركز الدولي للعدالة الانتقالية ونشاطه المستمر في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا؟

لدينا حالياً مكتب في كل من لبنان وتونس يخدمان المناطق المحيطة بهما وليس فقد البلدين الموجودين فيهما. ولدينا كذلك وجود في القاهرة ورام الله، فضلاً عن مجموعة من الخبراء من ذوي المعرفة بالمنطقة الذين يقومون بزيارات منتظمة لعدد من البلدان التي يمكن أن تستفيد من مجال خبرتهم وتخصصهم المحدد.

تأتي في طليعة شركائنا الطبيعيين منظمات المجتمع المدني التي يُعنى الكثير منها بهذه القضايا منذ سنوات طويلة. وفي العام ونصف العام الماضيين، شهدنا نشوء منظمات تركز على العدالة الانتقالية تحديداً، إلى جانب المنظمات الحقوقية التقليدية.

"شهدنا نشوء منظمات تركز على العدالة الانتقالية تحديداً."
    وهناك بعض الحكومات التي بدأت تظهر التزامها بقضايا العدالة الانتقالية؛ وأنشطها الحكومة التونسية، ونحن نتعاون بصورة وثيقة مع وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية في تونس فيما يتعلق بالمشاورة الوطنية لوضع استراتيجية شاملة بشأن العدالة الانتقالية.

كما تربطنا علاقات جيدة مع بعض الوزراء الرئيسيين في اليمن.

في البلدان التي تسير فيها إجراءات العدالة الانتقالية بوتيرة أبطأ، لدينا صلات بمسؤولين في شتى المؤسسات السياسية؛ وبعضهم أكثر انفتاحاً من غيرهم، ولكننا بوجه عام نزيد من صلاتنا بالحكومات وبالمجتمع المدني على حد سواء.

لعله علينا البدء بتونس حيث تتجلى عملية العدالة الانتقالية بوضوح، وتتسم بمضمونها الجوهري البارز القائم على استجابة الحكومة التي تأخذ العدالة الانتقالية مأخذ الجد، فيما يبدو. فما هي التحديات الماثلة أمام تونس ، وما هو دور المركز الدولي للعدالة الانتقالية في هذا الصدد؟

كان لنا دور في تونس منذ انطلاق الانتفاضة، بما أجريناه من محادثات مع السلطات المؤقتة، ومع منظمات المجتمع المدني بوجه خاص. وفي العام الأول لم يتضح تماماً الاتجاه الذي سوف تسير فيه الأمور لأن الناس كانوا ينتظرون الانتخابات؛ غير أن البلاد اتخذت رغم ذلك مبادرات مهمة، مثل إنشاء لجنتين للتحقيق إحداهما تتعلق بالفساد والأخرى بانتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت إبان الثورة. ولقد عملنا بشكل وثيق مع كلتا اللجنتين، وعرضنا تقديم مساعدة عملية في عملهما وإعداد تقاريرهما.

ولم تكد تُشكَّل الحكومة الجديدة في كانون الأول /ديسمبر، حتى اتخذت قراراً سياسياً مهماً على أعلى المستويات، بأن تلتزم بمعالجة قضية العدالة الانتقالية على نحو شامل. وفي نيسان /إبريل/ من هذا العام، دعت السلطات العليا في الدولة إلى مؤتمر، دُعي إليه المركز الدولي للعدالة الانتقالية باعتباره شريكاً دولياً مهماً، لإطلاق مشاورة على الصعيد الوطني بشأن استراتيجية العدالة الانتقالية.

وقد بدأت هذه العملية بالفعل، وتقوم بالتنسيق لها وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية التي أعيدت تسميتها على هذا النحو آنذاك. وأنشأت الحكومة لجنة تنسيقية تضم مراقبين ومستشارين، من بينهم المركز الدولي للعدالة الانتقالية. وتجري حالياً عملية التشاور الوطني في مختلف أنحاء البلاد، حيث يُسأل المواطنون حول الإجراءات الواجب اتخاذها من وجهة نظرهم حيال قضايا الكشف عن الحقيقة، وجبر الضرر، والعدالة الجنائية، وإصلاح المؤسسات، بغية صياغة تشريع يحدد هذه الإجراءات.

"ثمة نية واضحة لوضع استراتيجية شاملة للعدالة الانتقالية في تونس."
    من الواضح الآن أن النية متجهة لتأسيس لجنة للحقيقة، ونحن نعلم أن هناك رغبة قوية لوضع برنامج لجبر الضرر. وبالرغم من وجود صعوبات عملية ومالية واختلافات في وجهات النظر، فهناك نية واضحة لوضع استراتيجية شاملة للعدالة الانتقالية في تونس، ونحن نؤيد ذلك كل التأييد.

في أعقاب الانتخابات التي جرت في ليبيا، بدا من المأمول أن تتولى حكومة شرعية هذه القضايا وتأخذها مأخذ الجد؛ ولكن لا تزال هناك بواعث قلق تتعلق بقدرة مؤسسات الدولة في مجال العدالة الجنائية، ولا سيما فيما يتعلق بقضيتي سيف الإسلام وعبد الله السنوسي. كيف ترى ليبيا تسير قدماً على هذا الصعيد، وما هو دورنا في هذا الصدد؟

لقد شهدت ليبيا انتخابات ناجحة، ومن ثم فقد أصبح هناك الآن برلمان شرعي، ونأمل أن نرى حكومة تتشكل هناك عما قريب. وسوف تكون حكومة تتمتع بشرعية سياسية لم تحظ بها الحكومة السابقة غير المنتخبة. وأملنا أن تلتزم هذه الحكومة الجديدة التزاماً جاداً بالتطرق الى قضية العدالة الانتقالية.

لقد كانت المبادرات السابقة التي اتخذها المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا تسير عشوائياً؛ ونعتقد أن بعض القوانين التي صدرت جديرة بأن يُعاد النظر فيها. فنحن مثلاً نجد إشكالية في قانون صدر لمنح العفو للثوار الذين ارتكبوا جرائم. وقد بُذلت أيضاً جهود لإنشاء لجنة للحقيقة رغم أن التفاصيل المتعلقة بذلك لم تتحدد بعد.

ولعل أكبر التحديات التي ينبغي على البلاد التصدي لها فوراً هو استمرار شتى الجماعات المسلحة في احتجاز الآلاف من المعتقلين. فلا تزال الدولة بحاجة لإيجاد سبيل لفرض سلطتها فيما يتعلق باستخدام القوة والاعتقالات، وهو الأمر الذي يثير بوضوح أسئلة ليس بشأن سلطة الدولة فحسب، بل أيضاً بشأن قدرة القضاء على البت في كل هذه القضايا.

ثم تأتي بعد ذلك القضايا البارزة التي سلطت عليها الأضواء، مثل قضية سيف الإسلام، وأنا أعتقد أن ليبيا لا تزال بحاجة لأن تظهر قدرتها على التعامل مع هذه القضايا على النحو الذي يسوِّغ توليها تلك المسؤولية من المحكمة الجنائية الدولية.

لقد قمنا بزيارة للبلاد، وكلنا حرص على دعم منهج شامل لمعالجة تلك القضايا. وبينما نتطلع لتشكيل الحكومة الجديدة، فقد عملنا مع بعض المجموعات الناشئة في المجتمع المدني؛ ومن المعلوم أن هذه المجموعات ما كان بمقدورها أن تمارس أي نشاط في ظل حكم القذافي؛ أما الآن فقد أصبح هناك اهتمام كبير ولا سيما من جانب الناشطات والمجموعات النسائية.

ما هي أهمية العدالة الانتقالية بالنسبة لبلد مثل ليبيا في سعيه للمضي قدماً في أعقاب صراع أدى إلى انقسامات بالغة في صفوف الشعب الليبي، بخاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الأسلوب الوحشي الذي قُتل به معمر القذافي؟ فهناك جروح لم تندمل بعد سواء تلك التي خلفتها حقبة حكمه الديكتاتوري أم التي نجمت عن الصراع نفسه.

من الأهمية بمكان الوقوف على جلية ما حدث بالضبط، سواء في ظل حكم القذافي أم إبان أشهر الثورة. فهناك روايات عديدة وأرقام كثيرة متداولة، ومن ثم فإن أي نقاش يتناول كيفية التعامل مع الماضي لا بد أن يكون قائماً على رواية حقيقية للماضي.

وسوف يكون هذا أمراً بالغ الأهمية، مثلاً، في تسوية قضية "الليبيين السود"، "الطوارقة"، الذين اتُّهموا بالجملة بدعم القذافي أثناء القتال ضد مصراتة؛ قد يكون من الصحيح أن الكثيرين منهم فعلوا ذلك، ولكن من المستبعد أن يكونوا جميعاً قد فعلوا ذلك. وبالتالي فمن المهم تحديد مسؤولية كل فرد على حدة. كما أن التثبت من الحقائق قد يساعد الطوارقة على العودة إلى ديارهم التي طردوا منها.    
"فإن كنت قد قتلت سجيناً أو عذبت شخصاً ما، فلا بد من محاسبتك عن أفعالك بغض النظر عن الجانب الذي تنتمي إليه."

وإذا كانت ليبيا راغبة في إرساء سيادة القانون، فلا بد لها من تحقيق المحاسبة بالنسبة لأنصار القذافي الذين ارتكبوا جرائم على مدى ما يزيد على 40 عاماً، وإبان الحرب الأهلية، ولكن أيضاً بالنسبة لمرتكبي الجرائم من الثوار. لا ينبغي أن تكون هناك استثناءات على الإطلاق. فإن كنت قد قتلت سجيناً أو عذبت شخصاً ما، فلا بد من محاسبتك عن أفعالك بغض النظر عن الجانب الذي تنتمي إليه.

يرى الكثيرون أن مصر تمثل أهم عملية انتقالية في المنطقة؛ فما هو تحليلك للوضع في المصر فيما يتعلق بآفاق العدالة الانتقالية والمحاسبة، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الانتخابات الأخيرة والخطوات التي اتخذها الرئيس مرسي؟

لقد بدت الأوضاع واعدة في مصر في أول الأمر، مما دفعنا للتأهب للمشاركة فيما يجري هناك. ولكن سرعان ما اتضح أن البلاد لم تشهد تغيراً في النظام في واقع الأمر؛ صحيح أن مبارك قد ذهب، ولكن النظام – وبخاصة ذلك الذي يديره الجيش – ظل قائماً إلى حد بعيد، بل كان يسير نحو الأسوأ من بعض الجوانب؛ خذ مثالاً على ذلك المحاكمات العسكرية للمدنيين. وكانت هناك أيضاً عداوة شديدة تجاه المنظمات غير الحكومية، بما في ذلك الدولية، فكان علينا إبطاء وتيرة مشاركتنا.

أما الآن، وبعد المبادرات التي اتخذها الرئيس مرسي، فأعتقد أننا ربما نشهد بداية تغيير سياسي حقيقي، وهذا من شأنه أن يفتح آفاق العدالة الانتقالية لأن الجيش لم يكن مهتماً بها.

إلى أين سوف تسير الأمور بالضبط؟ لا ندري، ولكن هناك الكثير مما ينبغي القيام به. فقد كانت محاكمة مبارك محل انتقادات لأن القضاء اقتصر على ملاحقة عدد قليل من الأشخاص، ربما بدون أفضل الأدلة. وفي الوقت ذاته، فقد رأينا محاكمات أخرى للمتظاهرين والمعارضين أكثر من محاكمات ضباط الشرطة وغيرهم ممن تورطوا في القمع.

ومع التغير السياسي الناشئ في مصر، نأمل أن نشهد تحولاً في النهج الذي تنهجه نحو تحقيق العدالة الانتقالية. ونحن على استعداد للعمل مع كل من السلطات والمجتمع المدني الذي ظلت تربطنا به دوماً علاقات من التعاون الوثيق على مر السنين.

لقد كان السيناريو الذي شهدناه في اليمن مختلفاً ، فقد أبرم فيه اتفاق سياسي يسمح للديكتاتور السابق علي عبد الله صالح بالتخلي عن الرئاسة، وللكثيرين من أنصاره السابقين بالبقاء في السلطة. وفي الوقت ذاته، شهدنا بعض التقدم في انتهاج سبيل العدالة الانتقالية. فكيف ترى آفاق العدالة الانتقالية في اليمن على ضوء الاتفاق السياسي الراهن؟

اليمن هو المثال الوحيد في المنطقة الذي شهدنا فيه إبرام اتفاق سياسي يمنح طرفاً حصانة فعلية تجنبه العقاب؛ وهذا عيب يجعل الأوضاع في البلاد غير مستقرة نوعاً ما لأن قانون الحصانة ليس مقبولاً بوجه عام، بخاصة في أوساط أولئك الذين بدأوا الثورة.

"إلى أين سوف تسير الأمور بالضبط؟ لا ندري، ولكن هناك الكثير مما ينبغي القيام به."
    ولكن حتى في ظل هذه القيود السياسية والقانونية، أعتقد أن هناك مجالاً لإحراز تقدم على صعيد جوانب أخرى من العدالة الانتقالية. فلقد أثار إعجابنا العمل الذي قام به وزيرا حقوق الإنسان والشؤون القانونية، بخاصة وأن هناك الآن مسودة قانون بشأن لجنة للحقيقة تتولى النظر في أحداث الماضي البعيد، وليس فقط حقبة الرئيس صالح، وتسعى لإرساء برنامج لجبر الضرر.

وقد تحقق ذلك بعد مفاوضات مكثفة، ولكن الحكومة منقسمة ولا يزال مشروع قانون العدالة الانتقالية ماثلاً أمام الرئيس. ومن غير الواضح ما إذا كان سوف يتم إقراره أم سُيحال إلى ما وصف بـ"الحوار الوطني" الذي من المفترض أن يعالج كافة جوانب الأزمة اليمنية – السياسية والهيكلية والدستورية والاقتصادية، وغيرها.

ونحن نسعى بالتعاون مع بعض هؤلاء المسؤولين الحكوميين والمنظمات غير الحكومية لتطوير منهج سديد للبحث عن الحقيقة ولجبر الضرر، وندرك أن قانون الحصانة يمثل عقبة أمام الملاحقات القضائية، وأن إصلاح المؤسسات سوف يكون صعباً بنوع خاص؛ ذلك أن إصلاح المؤسساتالمتورطة في الانتهاكات يستوجب استبعاد الأشخاص الذين كانوا جزءاً من النظام القديم، ولكنهم في اليمن جزء من اتفاق سياسي، وهو الأمر الذي لا يزال سبباً للتوتر، بل والعنف أحياناً. ولكن المركز الدولي للعدالة الانتقالية، باعتباره منظمة تنتهج نهجاً عملياً، يسعى للاستفادة القصوى مما يمكن تحقيقه، ولذا فإننا حريصون كل الحرص على تقديم المساعدة في الجوانب التي نرى بالإمكان إحراز تقدم فيها في اليمن.

إذا ما أخذنا في الاعتبار استمرار السيناريو المروع الذي تشهده سوريا، وأعداد القتلى في كل يوم، فهل ترى أي جدوى من الحديث عن العدالة الانتقالية في هذا السياق؟

إننا نشعر بأشد الإحباط ونحن نشهد ما يجري من أحداث في سوريا حالياً، ولا نستطيع تقديم الدعم لهؤلاء المواطنين الشجعان الذين تحملوا وصمدوا أمام رد فعل النظام الحالي لانتفاضة سلمية، ولو في بداية الأمر على أقل تقدير. ولكن يمكننا تشجيع النقاش حول اليوم الذي يلي تغيير النظام في نهاية المطاف.

ولا بد لنا من الشروع دون إبطاء في بحث الإجراءات التي تحتاجها البلاد بعد انتهاء هذه المأساة، فهذا المسعى لن يكون أبداً سابقاً لأوانه؛ وأغلب الظن أن النظام الحالي لن يتمكن من البقاء، ولو أنه من غير الواضح ما الذي سوف يحل محله. ولكن من المهم أن نبدأ الآن في المحادثات مع المهتمين بحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية حول الإجراءات التي ينبغي اتخاذها لإقرار الحقيقة، وضمان تحقيق المحاسبة على الجرائم التي تُرتكب حالياً، وتلك التي ارتكبت في السنوات والعقود الماضية، وحول كيفية التعامل مع حقوق الضحايا، وكيفية إصلاح مؤسسات الدولة التي تمارس أشد وجوه القمع، والتي ألحقت الحرب الأهلية بها أضراراً بالغة.

ويتباحث المركز الدولي للعدالة الانتقالية حالياً مع عدد من منظمات حقوق الإنسان، والأكاديميين، والنشطاء السياسيين، وغيرهم، حول سبل معالجة هذه القضايا. قد يستغرق التغيير أمداً طويلاً، أو قد يحدث بسرعة فائقة، ولذا فمن الحكمة تكريس الوقت لذلك والتخطيط له الآن.

لقد كانت أطول مشاركة لنا في المنطقة في لبنان حيث ركزنا في المقام الأول على قضية المخفيين قسراً؛ فما هي آثار الجهود التي قام بها المركز الدولي للعدالة الانتقالية في لبنان؟

إلى حد ما يمكن القول بأن لبنان يمثل أسوأ سيناريو يمكن تصوره للمنطقة، فقد شهد حرباً أهلية استغرقت أكثر من 15 عاماً، ثم شهد عدة موجات من العنف منذ انتهاء الحرب. ولا يزال ما يقدر بنحو 17000 شخص في عداد المفقودين، فضلاً عن الآخرين ممن عايشوا المعاناة خلال تلك الفترة.

وحتى الآن، في الوقت الذي تخوض فيه سوريا المجاورة غمار حرب أهلية، هناك دفع في لبنان نحو استجلاء الحقيقة بشأن المفقودين من جانب مختلف الجمعيات المعنية بالضحايا والمنظمات غير الحكومية. وقد كان للمركز الدولي للعدالة الانتقالية دور محوري في دعم هذا المسعى؛ إذ قدمنا الدعم لتلك المجموعات لمساعدتها على صياغة ما نعتقد أنه مشروع جيد لقانون بشأن المفقودين والمخفيين قسراً ولو اعتُمد هذا القانون، فسوف يضمن إحراز تقدم بشأن هذه القضية المؤلمة. كما يتعين بذل كثير من الجهود للحيلولة دون تكرار الحرب الأهلية، ولا سيما في أوساط الجيل الناشئ. ولقد أجرينا مقابلاتمع الكثير من الأشخاص لمساعدتهم على سرد رواياتهم بشأن ما كابدوه في ظل الحرب الأهلية، وتوعية الجيل الجديد الذي لم يعاصر هذه الحرب، والذي يعيش في مجتمع لا يريد في الأغلب التعامل مع الماضي.     Image removed.

ويعتقد البعض أن الصمت هو أفضل سبل التعامل مع الماضي، ولكن تجاهل الماضي غالباً ما يفضي إلى تأجيج الشكوك والتعصب والتحامل والانقسامات بين مختلف المجموعات.

وكل هذا العمل ربما لا يكون بارزاً للعيان أو قد لا يكون موضوعاً ذا أهمية راهنة لدى وسائل الإعلام، ولكنه مهم على المدى البعيد.

بالحديث عن وضع صعب وطويل الأمد، فليس هناك ما يمكن مقارنته بالوضع القائم بين إسرائيل والفلسطينيين. ما الذي يمكن للعدالة الانتقالية أن تقدمه في سياق يتسم بالجمود والشلل والعبء الثقيل من انتهاكات حقوق الإنسان مثل السياق السائد في إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلّة؟

مرة أخرى، وكما هو الحال في كثير من مثل هذه السياقات، يُعدُّ استجلاء الحقائق بشأن ما وقع من أحداث والتثبت منها بمثابة حجر الزاوية لأي حل. والجدل الراهن الذي يدور مثلاً حول حق اللاجئين في العودة أو نزوح الفلسطينيين، هو جدل يتعلق بما حدث عندما أنشئت دولة إسرائيل. فما هي المظالم على الجانب الفلسطيني؟ وما هي المظالم على الجانب الإسرائيلي؟ ليست هناك رواية رسمية مقبولة لدى الجميع بشأن القضايا التي يدور حولها الصراع، ومن ثم فإن التثبت مما وقع من أحداث، والاعتراف بالحقائق هما أمران ضروريان للبت في كيفية معالجة هذا الإرث.

ونحن نعمل مع المهتمين بهذه القضايا، وهناك مجموعات – وإن كانت لا تزال مهمشة نوعاً ما في المجتمع – سواء من الجانب الفلسطيني أم الإسرائيلي، تحاول سد هذه الثغرات في الروايات التاريخية. كما أن قضية المحاسبة على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية – مثل التعذيب المنهجي أو الهجمات ضد المدنيين – هي أيضاً قضية جوهرية في أي عملية تتعامل مع إرث الانتهاكات.

وهناك أيضاً بعض المبادرات الأصغر حجماً، ولكن المهمة، التي نساهم فيها. فنحن ندرس الآثار التي خلفها بناء الجدار على ممتلكات الفلسطينيين وحقوقهم؛ وقد خلصت محكمة العدل الدولية إلى أن جزءاً كبيراً من الجدار غير قانوني لأنه أقيم على أرض محتلة. ونحن نساعد في توثيق الضرر الناجم عن الجدار لأنه ينبغي أن تتحقق المحاسبة عن ذلك يوماً ما، ويتلقى المتضررون تعويضات عما لحق بهم من أضرار. قد يكون هذا المشروع صغيراً، لكنه مهم لإرساء مبادئ المحاسبة.

يعمل المركز الدولي للعدالة الانتقالية بنشاط في مختلف بلدان المنطقة بشأن قضايا تتعلق بالنوع الإجتماعي، بالتعاون مع شركاء مهمين؛ فما هي الأهداف التي نسعى لتحقيقها؟

"الواضح، فيما أعتقد، أن شعوب المنطقة لم تتخلص من خوفها فحسب، بل اكتسبت أيضاً رغبة عارمة في الحرية، وفي المشاركة في اتخاذ القرارات الرئيسية المتعلقة بمستقبلها."
   

الهدف العام الذي نتوخاه هو معالجة القضايا الخاصة بالنساء – لا العنف الجنسي فحسب بل الآثار المختلفة التي تخلفها الانتهاكات على الرجال والنساء. ونسعى لتمكين المنظمات النسائية حتى تشارك في عمليات العدالة الانتقالية بنشاط، مثل تلك الجارية في المغرب على سبيل المثال. وننظم في مختلف البلدان العديد من ورشات العمل وندوات المناقشة التي يشارك فيها النشطاء والمنظمات من المنطقة. والهدف المنشود هو استكشاف أفضل السبل لضمان حقوق المرأة ومشاركتها في مختلف العمليات في منطقة يشيع فيها التمييز ضد المرأة على نطاق واسع، ويضرب بجذوره في كل مجتمع من مجتمعاتها.

وفي بلدان مثل لبنان، يستكشف المركز الدولي للعدالة الانتقالية أيضاً آثار الاختفاء القسري على النساء بالنظر إلى الآثار المدمرة التي خلفها هذا الانتهاك بنوع خاص على النساء في مختلف أنحاء المنطقة.

أخيراً، كيف ترى مستقبل عمليات العدالة الانتقالية في المنطقة؟ فمن الواضح أن التغيرات التي نشهدها غير عكسية، ولكن ما هي مآلاتها في رأيك؟

أعتقد أن بعض هذه التغيرات الإيجابية قد تكون عكسية، بكل أسف، ولكن التقدم سوف يستمر أيضاً. سوف يكون الثمن باهظاً، كما نشهد الآن في سوريا. ونأمل ألا يكون التغير بمثل هذا العنف في بلدان أخرى؛ ولكنه سوف يستغرق وقتاً طويلاً، ولن يسير التقدم بوتيرة ثابتة، فقد نشهد ردود فعل عكسية، بل قد نرى أنواعاً جديدة من المشاكل؛ فبعض حوادث التعصب الديني التي نشهدها الآن، على سبيل المثال، لم تحدث من قبل. ولكن الواضح، فيما أعتقد، أن شعوب المنطقة لم تتخلص من خوفها فحسب، بل اكتسبت أيضاً رغبة عارمة في الحرية، وفي المشاركة في اتخاذ القرارات الرئيسية المتعلقة بمستقبلها؛ ولعل هذا هو أبرز الجوانب الإيجابية على الإطلاق.

ومن المهم أن نتذكر أن العمليات الانتقالية تستغرق وقتاً دائماً؛ إن التحديات التي تلوح في الأفق تبدو عسيرة ، ولكن بإمكاننا أن نتطلع إلى المستقبل بمزيد من التفاؤل والأمل.