رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية ديفيد تولبرت يعرِض في منتدى الدوحة الحقائق المُرة بشأن التحولات في العالم العربي

03/06/2014

بعد مرور ثلاث سنوات على ما يسمى "بالربيع العربي"، اتسم التحول نحو حقبة ما بعد الثورة لغاية الآن بخليط من الأمل والصعوبات. ففي حين استطاعت بعض بلدان المنطقة من وضع قدميها على المسار الانتقالي الصحيح، ارتد بعضها الآخر إلى أوضاع ما قبل الثورة، أو أسوأ حتى، إلى أوضاعٍ من القتل بغير رحمة وتفشي الإفلات من العقاب.

حالة عدم اليقين هذه بشأن مصير التحولات في المنطقة كانت القوة الدافعة التي حركت منتدى الجزيرة السنوي الثامن الذي انعقد في العاصمة القطرية، الدوحة، من 26-28 مايو/أيار. شارك في المنتدى مئات الساسة والأكاديميين والباحثين والصحفيين والناشطين الشباب ومنظمات المجتمع المدني الذين جاءوا من أكثر من 40 بلداً. وتدارس المشاركون على نحو نقدي التقدم الذي أحرزته الأقطار العربية في مسعاها إلى التحول نحو الديمقراطية والعدالة وسيادة القانون.

وفي الجلسة الافتتاحية التي انعقدت بعنوان "معوقات التحول الديمقراطي في العالم العربي"، قدّم رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية، ديفيد تولبرت، كمتحدث رئيسي في الجلسة لمحة مفصلة عن تدابير العدالة الانتقالية التي باشرت بها عدد من بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.    
"هذا الموضوع يكتسب أهمية قصوى، ذلك أن أرواح الملايين ورفاه عيشهم على المحك"

وجاءت كلمة تولبرت عن العدالة الانتقالية بعد استماع المنتدى لكلمة من رئيس الحكومة السورية المؤقتة، أحمد طعمة، الذي استعرض التطورات في سوريا منذ انطلاق الانتفاضة السلمية عام 2011.

وبدأ تولبرت حديثه إلى جمهور منتدى الجزيرة مشيراً إلى أن الموضوع الجاري تداوله في المنتدى هو من أشد الموضوعات إلحاحاً، وقال إن "هذا الموضوع يكتسب أهمية قصوى، ذلك أن أرواح الملايين ورفاه عيشهم على المحك".

وأوضح تولبرت أنه عند فشل الدول في حماية حقوق مواطنيها أو عندما تكون هي نفسها متورطة في انتهاك تلك الحقوق، فإنه لا يمكن اختزال التحول الديمقراطي في إجراء انتخابات؛ بل إن اتّباع نهجٍ أوسع نطاقاً في المحاسبة على الماضي يعدُّ أساسياً وينبغي له أن يشتمل، في الغالب، على مبادرات رسمية وغير رسمية للبحث عن الحقيقة، والملاحقة الجنائية، والانتصاف للضحايا، وإصلاح المؤسسات الرئيسية ومن ضمنها قطاعا القضاء والأمن.

ومن خلال تجربة المركز الدولي للعدالة الانتقالية في الكثير من بلدان العالم، ثبُت في البلدان التي وظّفت عمليات تقصي الحقائق والعدالة كعناصر رئيسية في تحولها الديمقراطي –بما فيها تلك البلدان التي تخلصت من أنظمة استبدادية، كبلدان أمريكا اللاتينية، وغيرها ممن خرجت من نزاعات مسلحة كما هي الحال بالنسبة لبلدان في شرق أوروبا وأفريقيا- أن هذه العمليات هي عمليات طويلة الأمد.

وأضاف تولبرت بأن "هذه الجهود تمتد في الغالب لعدة أجيال وتحتاج إلى التزام يكفل أن تصبح الحقيقة بشأن الماضي، في نهاية المطاف، جزءاً من المنهاج الدراسي الوطني".

وتابع قائلاً إنه "يجب على أنصار العدالة الانتقالية أن يتأكدوا من أنهم يغرسون البذور الصحيحة – وقد أقمتُ الحجة اليوم بأن العدالة الانتقالية هي إحدى الطرق ممكنة التطبيق للقيام بذلك- بحيث يتسنى لأطفالهم بعد سنوات من الآن العيش في مجتمع أكثر عدلاً وعملاً بالمساواة بين الناس".

وفي إطار فعاليات المنتدى، شارك السيد تولبرت أيضاً في لجنتين مسؤولتين عن ورشتي عمل بعنوان "تمهيد مسارات التغيير الاجتماعي: دور الإعلام وحقوق الإنسان في الأزمات".

ما وجه الإخفاق الذي وقع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟

أوضح السيد تولبرت في كلمته بمنتدى الجزيرة أن العقبة المركزية التي تعترض سبيل التحولات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي الافتقار المستمر إلى إجراءات المحاسبة التي تتصدى لانتهاكات الماضي، أي حالة الإفلات من العقاب ذاتها التي شكلت سبباً جذرياً من أسباب اندلاع الثورات في المقام الأول. وقال إن "لاعبين سياسيين أقوياء في مصر وليبيا واليمن وسوريا.” –بشكل أشد وضوحاً- يقاومون بشدة إجراءات المحاسبة".

تأتي أشد مستويات المقاومة ضد إجراء تحقيقات ومحاكمات عن جرائم ارتُكبت في الماضي، من أطراف موجودة في السلطة –المالية أو السياسية أو كليهما- وغالباً ما يتفوق تأثير هذه المقاومة على الجهود المبذولة لتحقيق العدالة.

وفي سبيل مواجهة هذا التحدي، يجب ألا تتأسس آليات التعامل مع الانتهاكات المنهجية سوى عن طريق التشاور الموسع مع المنظمات الشعبية ومنظمات المجتمع المدني.

ويرى تولبرت أن مثل هذا النوع من التشاور كان غائباً بشكل ملحوظ عندما حاولت اليمن وليبيا ومصر استحداث آليات للتعامل مع الماضي.

"لاعبين سياسيين أقوياء في مصر وليبيا واليمن وسوريا –بشكل أشد وضوحاً- يقاومون بشدة إجراءات المحاسبة".
    ومن التحديات الرئيسية الأخرى التي تواجهها المنطقة النقص المستمر للموارد المالية والبشرية لتطبيق إجراءات العدالة الانتقالية، وهو نقص أدى إلى استنزاف القدرة التشغيلية للمؤسسات وتسبب في خيبة أمل في الأوساط العامة التي كان سقف توقعاتها عالياً بالنسبة لمجتمعات ما بعد الثورة..

وفي هذا الجانب، قال تولبرت إنه "عندما لا يتم تأمين الموارد ولا يجري تحديد الأهداف والأولويات بوضوح خلال المرحلة الأولية من العملية، يترسخ العمل بالتدابير الارتجالية مما ينتج عنه حتماً إنهاك قوى أصحاب المصلحة".

وإلى جانب موضوع الموارد العامة والإرادة السياسية، شدد تولبرت على أن التحول في بلدان المنطقة يواجه أربع عقبات محددة، هي: العزل السياسي، والتشريع، والملاحقات القضائية، وجبر الأضرار.

وقال تولبرت "لقد سعت كل من مصر وتونس وليبيا إلى إقرار قوانين العزل السياسي لاستبعاد الأشخاص على أساس الانتماء لتيارات سياسية معينة وليس استناداً إلى سلوكهم الفردي، مما شكّل انتهاكاً للمفاهيم الأساسية للإجراءات القضائية السليمة". بالمقابل، اقترح اليمن تضمين الدستور فقرة حول العزل السياسي؛ وإذا ما تم إقرار تلك الفقرة فإن من شأنها أن تؤثر على الأشخاص المحميين بقوانين الحصانة لكونها ستجبرهم على الاختيار بين أمرين؛ إما المشاركة في العمل السياسي أو الحفاظ على حصانتهم.

أما بالنسبة للتشريعات الخاصة بالعدالة الانتقالية، فقد اعتبر السيد تولبرت هذه العملية "ارتجالية" في كل من تونس واليمن وليبيا ومصر، وأشار إلى الفشل الذي حصل في مصر، وخاصة فيما يتعلق بالمضي قُدماً في مقترحات ملموسة بسبب الاضطراب السياسي والاجتماعي الشديد الذي صاحب الانتقال المفاجئ للسلطة التنفيذية خلال السنوات الثلاث الماضية.

من ناحية أخرى، لم تحقق الجهود الرامية إلى التحقيق مع أشخاص وملاحقتهم قضائياً بسبب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان سوى اهتماماً ضئيلاً. وأشار السيد تولبرت إلى قانون الحصانة الذي أُقر في اليمن والذي يحول دون المحاسبة عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها الرئيس صالح ومعاونيه. وصحيح أنه جرت محاكمات لمسؤولين كبار في تونس ومصر، إلا أن السلطات الانتقالية في كلا البلدين تعجلت الإجراءات القضائية ضد رئيسي الدوليتين السابقين.

وقال إن "القضايا المرفوعة ضد الرئيسين السابقين زين العابدين بن علي وحسني مبارك كانت بمثابة فرصة ضائعة لتحقيق العدالة"، ذلك أن "أياً منهما لم تبرهن على وجود رغبة لتسخير آليات العدالة الجنائية في التأكيد على سيادة القانون أو التخلي عن ممارسات الماضي. وقد تسببت مثل هذه الممارسات إلى انعدام الثقة في نزاهة القضاء الوطني".

كما أن تعويض الضحايا والانتصاف لهم قد قصّر عن بلوغ المطلوب وعجز حتى الآن عن تقديم التعويض المالي في البلدان الثائرة التي نتناولها بالنقاش اليوم، ولكن العدالة الجبرية، حسب السيد تولبرت، في إطارها الأوسع ظلت ضعيفة وعانت من الافتقار إلى "الاعتراف أو الدعم الاجتماعي أو الطبي أو غيره من أشكال الدعم" التي "يتوق الضحايا بشدة للحصول عليها ويستحقونها".

واختتم تولبرت كلمته بالإشارة إلى الدور الحاسم الذي يلعبه الإعلامفي سياقات العدالة الانتقالية. ويرى تولبرت أن الصحفيين شركاء في المسؤولية في الكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان والمتورطين فيها وتوثيقها. وقال إن دور "الإعلام أساسي في شرح مفاهيم العدالة الانتقالية وإجراءاتها التي قد تبدو معقدة بالنسبة للعموم، غير أنها جوهرية بالنسبة للرغبة الأساسية لمعرفة الحقيقة بخصوص الماضي، ومحاكمة مهندسي المعاناة الإنسانية والفساد اللذين شهدتهما بلدان كثيرة جداً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، وأضاف بأن "الإعلام يساعد كلاً من الضحايا والمجتمع المدني على إيصال صوتهما إلى كل من المجتمع والحكومة".

الحالة التونسية: شعاع أمل للمنطقة

بالمقابل، يبرز التونسيون بين أقرانهم من العالم العربي عندما يتعلق الأمر بمحاسبة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان؛ فقد تميزت تونس عن غيرها من بلدان المنطقة من خلال الشروع في مشاورات واسعة حول العدالة الانتقالية، أعقب ذلك إنشاء لجنة فنية أُنيطت بها مهمة صياغة مشروع قانون العدالة الانتقالية الذي تم إقراره في ديسمبر/ كانون الأول 2013.

وقال تولبرت إنه "على الرغم من النقص الذي يعاني منه قانون العدالة الانتقالية في جوانب معينه، غير أن إقراره يشكل اختراقاً. فهو يكفل بقاء العدالة الانتقالية عنصراً توجيهياً من عناصر التحول الديمقراطي في البلد".

ومن أبرز ملامح هذا القانون أنه ينص على إنشاء لجنة للحقيقة، ودوائر قضائية مختصة بحقوق الإنسان، وبرنامج للتعويضات. ومن شأن ذلك، حسب تولبرت، أن "يمنح المناصرين موطئ قدم بمقدوره أن يوفر لهم فرصاً إضافية للانتصاف عن انتهاكات الماضي".


الصورة: ديفيد تولبرت، رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية، يخاطب الحضور في منتدى الجزيرة الثامن في الدوحة، قطر، 26 أيار/مايو 2014