منذ أن أطاح التونسيون بنظام بن علي قبل ست سنوات، عَمِلت تونس على مُواجهة ماضيها المُؤلم من خلال العملية التي تقودها هيئة الحقيقة والكرامة. قدّم أكثر من 000 62 ضحيةً بالفعل شكاواهم إلى الهيئة، ولا تزالُ جلسات الاستماع العلنية تستحوذ على اهتمام الجمهور وتزيد وعيهم بمعاناة الضحايا ومطالبهم بالمساءلة وجبر الضرر. ومع ذلك، في حين أنّ الهيئة تواصل تسليط الضوء على انتهاكات الماضي، لم يُحرزُ نفس التقدم في ملاحقة تلك الجرائم. اتسمت الجهُود الرامية إلى تحقيق المساءلة بغياب الاستراتيجية والافتقارِ إلى الإرادة السياسية.
عرقلت الصراعات السياسية عمليّة العدالة الجنائية. تعتمدُ الملاحقة القضائية لأبشع الانتهاكات التي حدثت في عهد الدكتاتورية على تفعيل الدوائر القضائية المتخصصة التي أنشأها قانون العدالة الانتقالية في تونس، والتي تتولى معالجة القضايا الجنائية المتعلقة بانتهاكات النظام السابق. غير أنّ التنفيذ كان بطيئاً لأن القانون لا يُوفر هيكلاً واضحاً لكيفية عمل هذه الدوائر.
هذا النقص في الوضوح يَخلقُ وضعاً ملائماً أمام الجمود السياسي، إذ تواجه كل خطوة إلى الأمام عقباتٍ جديدة: على سبيل المثال، تم ترشيح 45 قاضياً للدوائر، ولكنٌ ترشيحهم لم يتبعُ أي إجراء واضح ولم يتلقوا التدريب اللازم للتعامل مع هذه الحالات الحساسة. إضافة إلى أنّ كثيراً من هؤلاء القضاة لم يسبق لهم التعامل مع قضايا جنائية.
للمساعدة على توضيح الوضع وتوفير خارطةِ طريق للمساءلة الجنائية، تم عقدُ مؤتمر بالشراكة مع نقابة المحامين التونسية في 15 و 16 ديسمبر / كانون الأول من عام 2016 في تونس. حضر المؤتمر أكثر من 100 مسؤولاً في جهود العدالة الانتقالية في تونس، من بينهم مرشّحون متخصصون في الدوائر وأعضاء في هيئة الحقيقة والكرامة وممثلون عن جمعيات المحامين والضحايا. في سلسلة من حلقات النقاش، تناول الحاضرون المسائل الرئيسية التي يجبُ تسويتها لتصبح الدوائر المتخصصة جاهزة للعمل مع الاحترام الكامل لضمانات المحاكمة العادلة.
وكان بين القادة الوطنيين الذين حضروا رضوان الوارثي وكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب وسهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة. أشار الوارثي إلى الحاجة المُلحة إلى التغلّب على العقبات التي تواجه الدوائر. أوضح الوارثي "لقد حان الوقت للفت الانتباه للعقبات القانونية والمادية المختلفة التي تُعرقل تفعيل الدوائر المتخصصة والمُضي قُدماً نحو المساءلة". وأضافت بن سدرين أنّ "قانون العدالة الانتقالية في تونس يُوفر عدة آليات لمكافحة الإفلات من العقاب واستعادة حقوق الضحايا، بما في ذلك إنشاء دوائر متخصصة. ويجبُ علينا أن نستفيد استفادة تامة من هذه الآليات، بالتنسيق مع بعضها البعض، إن أردنا تحقيق العدالة في الانتهاكات."
العقبات التي تواجه الدوائر القضائية المتخصصة
وفقاً لما ذكره المشاركون في المؤتمر، فإنّ العقبات العملية والقانونية التي تُعرقل التنفيذ الفعّال للدوائر المتخصصة تشملُ عدم وضوح الكيفية التي ستعمل بها اللّجنة الفنية المُؤقتة والدوائر المتخصصة معاً، وما إذا كانت هيئة الحقيقة والكرامة هي السلطة الوحيدة لإجراء التحقيقات الجنائية للدوائر. وأشاروا أيضاً إلى ضرورة توضيح ما هي أجزاء القانون الجنائي التي ستنطبق على الدوائر.
ومن المسائل الهامة الأخرى التي تناولها المؤتمر مسألة الطعون: هل يمكن للمدانين من الدوائر المتخصصة الطعن في القرار؟ وإذا كان الأمر كذلك، فمن سينظر القضية؟ وأشار المشاركون إلى أن استبعاد آلية استئناف من شأنه أن يخرق الدستور. كما أعربوا كذلك عن قلقهم إزاء المقاضاة على سلوكٍ لم يتم تجريمه صراحة في ذلك الوقت.
كما قدّم هوارد فارني خبير المركز الدولي للعدالة الانتقالية لمحةً عامة عن التجارب المُقارنة للدوائر المتخصصة من جميع أنحاء العالم، وأثار العديد من الشواغل المتعلقة بالإجراءات القانونية الواجبة. كما اقترح أن يسعى المحامون والقضاة إلى حل التوترات بين الرغبة في ضمان العدالة السريعة والحاجة إلى احترام الإجراءات القانونية الواجبة على النحو الذي تقتضيه المعاهدات الدولية المُلزمة.
وأوضح فارني "أحد قضاة الدوائر القضائية أكّد قاطعاً أنه يودّ أن يرأس جلسات استماع عادلة تحترم الإجراءات القانونية الواجبة بيد أنه يخشى ألا تكون هذه العملية عادلة بالنظر إلى أنّ التدابير القانونية المختلفة قد ألغت بعض أشكال الحماية التي تحترمها المحاكم عادة. واعتبر أن تلك هي المعضلة المركزية التي تواجه القضاة والممارسين."
انتهى المؤتمر بتوصياتٍ من المشاركين. أولاً، اتفق الحضور على أنه لا يمكن للدوائر المتخصصة أن تنطلق من أرض الواقع إلى أن يتوافر لدى جميع الأطراف وضوحاً حول القوانين التي تحكمُ الهيئة الجديدة. كما يتحتمُ معالجة الثغرات التشريعية ويجب أن تكون الدوائر قادرة على ضمان إجراء محاكمات عادلة. ثانيا، حثّ المشاركون السلطات على التعجيل بإضفاء الطابع المحلي على الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها تونس، لتوفير قاعدة متينة للملاحقة القضائية. وأخيراً، يجب توضيح معايير نقل القضايا من هيئة الحقيقة والكرامة إلى الدوائر وشرحها للجمهور.
كان المؤتمر خطوة هامة لتحقيق هذه الأهداف الحاسمة. في الأسابيع المقبلة، سيُعمم المركز الدولي للعدالة الانتقالية تقريراً بين القادة القضائيين التونسيين من أجل صياغة الخطوات التالية لإخراج الدوائر المتخصصة للضوء. وقالت آنا ميريام روكتللو نائبة مدير البرنامج في المركز الدولي للعدالة الانتقالية: "سلّط المؤتمر الضوء على الفجوات التشريعية والهيكلية العديدة التي يَجب معالجتها من أجل تفعيل الدوائر المتخصصة .وأظهرت أيضاً كيف أن توقعات الضحايا والمجتمع ككل تتطلب أن تدار ضمن معالم مبادئ العدالة الجنائية".
الصورة: الحضور الأعضاء الحضور يناقشون كيفية التنفيذ الفعال للدوائر المتخصصة التي أنشأها قانون العدالة الانتقالية في تونس. (Mériem Chaouachi/ICTJ).