تساؤلات عسيرة أمام المحكمة الجنائية الدولية بعد صدور أول حكم تاريخي

30/03/2012

بقلم بول سيلز

بعد محاكمة استغرقت ثلاث سنوات، واعتقال دام سبع سنوات، اكتسب توماس لوبانغا شهرة لا تشرف صاحبها إذ أصبح أول شخص تدينه المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. ففي قرار تاريخي يعد بمثابة علامة فارقة في تاريخ العدالة الدولية، ويؤكد ضمانات الحماية الممنوحة للأطفال في الحروب في أنحاء العالم، أدين لوبانغا عن دوره في نشاط مشترك يتعلق بتجنيد الأطفال واستعمالهم في ميليشياته التي خاضت حروباً في جمهورية الكونغو الديموقراطية بين عامي 2002 و2003. .

ولا شك أن صدور حكم بإدانة رجل تعمد الزج بصغار الأطفال الأطفال في حرب دموية حريٌ بأن يكون مناسبة للتأمل في جرائمه؛ وهو حكم يثير في الوقت ذاته تساؤلات حول عمل المحكمة نفسها، بما في ذلك طول الاحتجاز السابق للمحاكمة والمحاكمة ذاتها، إضافة إلى جوانب من أداء الادعاء.

لقد استرعى لوبانغا اهتمام المحكمة باعتباره زعيم "اتحاد الوطنيين الكونغوليين"، وهو ميليشيا مسلحة ضالعة في معركة طويلة للسيطرة على مقاطعة إيتوري الغنية بالذهب في منطقة شمال شرقي جمهورية الكونغو الديموقراطية المتاخمة لأوغندا ورواندا. وكان الصراع على إيتوري جانباً من سلسلة حروب بين الطوائف العرقية والدول، وقعت في براثنها ثماني دول مجاورة، وشاركت فيها زهاء 25 ميليشيا مسلحة في أزمنة مختلفة خلال الفترة بين 1996-2008. أما ميليشيا لوبانغا فلم تكون سوى واحدة من الميليشيات الكثيرة المسؤولة عن المجازر، وعمليات الاغتصاب، والتعذيب، والتمثيل، والقتل، واختطاف للأطفال في مختلف أنحاء وسط القارة الإفريقية. وقد أسفر هذا العنف عن إزهاق أرواح أكثر من خمسة ملايين شخص، مما يجعل هذا الصراع الأكثر دموياً منذ الحرب العالمية الثانية.

إن الحكم الصادر في قضية لوبانغا، الذي يقع في نحو 600 صفحة، يقف شاهداً على إجراءات قضائية طويلة ومعقدة شهدت أحياناً حلول القضاة والمحامين محل الضحايا والمتهمين باعتبارهم الشخصيات المركزية في القضية. ولعله مما يستوجب الشعور بكثير من الرضا أن المجتمع الدولي قد أنشأ محكمة جنائية دائمة أصدرت حكمها في نهاية المطاف. وسوف يسجل التاريخ أن الادعاء قد ظفر بحكم بالإدانة في أول محاكمة له.

لكن ْ من المهم ألا تمر هذه اللحظة بدون التمعّن في بواعث القلق الجدية التي ورد بعضها في الحكم ذاته. فسوف يتجادل المؤرخون وخبراء العلوم السياسية حول قرار المحكمة بتعريف الصراع الذي شارك فيه لوبانغا على أنه صراع داخلي "غير دولي"، وذلك على الرغم من الحضور الواسع والباعث على القلق لكل من رواندا وأوغندا.

ثمة آفة أخرى مٌنيت بها العدالة الدولية، ألا وهي طول الإجراءات القضائية. إن احتجاز أي إنسان سبع سنوات قبل إدانته يثير أموراً خطيرة جداً بشأن نوعية العدالة الدولية؛ فماذا لو صدر الحكم ببراءته؟ أضف إلى ذلك أن أي محاكمة تستمر ثلاثة أعوام في نظر تهم محدودة النطاق جداً من شأنها أن تثير بواعث قلق جوهرية بشأن إجراءاتها القضائية.

إن الدائرة الابتدائية للمحكمة واضحة جداً بشأن من تعتبره مسؤولاً عن معظم هذا الأمر. ففي عدد من تعليقاتها المهمة تعتبر المحكمة أن الادعاء تصرف بإهمال، وهو ما كلفها الكثير من الوقت والمال. تشير أولى الملاحظات إلى استخدام وكلاء معروفين باسم "الوسطاء" للحصول على الشهود، بل وعلى الأدلة في بعض الأحيان.

أصبح هذا الموضوع مثار جدل قانوني مطوّل أفضى إلى توجيه لوم قاسٍ للادعاء وتم شطب كل الأدلة التي تم الحصول عليها عن طريق الوسطاء وأُمر الادعاء بالتحقيق في احتمال تورط الوسطاء في نشاط إجرامي. ويشير القضاة إلى أن الادعاء لم يشرف كما ينبغي على الوسطاء الذين ربما يكونون قد سلكوا مسلكاً إجرامياً في تحكمهم بالشهود أو تشجيعهم على الإدلاء بالشهادة. إن ثبوت وقوع إهمال من جانب الادعاء هو أمر جد خطير في أي فقه قانوني. كما أن كسب ثقة الناس يستوجب تفسيراً قوياً ومقنعاً لما حدث أو تعهداً بتغيير الإجراءات في المستقبل.

إلى جانب الجدل الطويل المتعلق بمسألة الكشف عن الأدلة في مراحل مبكرة من المحاكمة، تنتقد المحكمةُ نوعيةَ التحقيقات والتهمَ الموجهة للمدعى عليهم. إذْ لم توجه أي تهم إلى لوبانغا فيما يتعلق بالإساءة الجنسية للأطفال على الرغم من ظهور وقائع تكشفت خلال سير المحاكمة تدعم مثل تلك التهم. ولأسباب لم يتمكن من فهمها سوى قلة من الناس- بمن فيهم القضاة- عارض الادعاء توسيع الاتهامات لتشمل هذه المزاعم.

لقد تطلب الأمر قرابة ثماني سنوات من العمل الشاق من جانب كثيرين من الناس لبلوغ هذا اليوم الهام بالنسبة للعدالة الدولية. فكثير من الضحايا والشهود أقدموا على مخاطر كبيرة، كما عملت مجموعة من المحققين والمحامين- بمن فيهم محامو الدفاع- دونما كلل أو ملل. وعلى الرغم من الانتقادات الجدية التي وجهت لأوجه معينة، فمن الإجحاف نكران جهودهم ومساهمتهم لجعل المحكمة الجنائية الدولية محكمةً تقدم رادعاً معقولاً للجرائم الخطيرة؛ إلا أن التفكير المتروّي يؤدي إلى الإقرار بأن هذا النجاح ليس مطلقاً.

فالتقييم النزيه يظهر أن هذا كان أول تحقيق ومحاكمة يقوم بهما الادعاء. فعلى النقيض من التحقيق الخاص بجوزيف كوني و"جيش الرب للمقاومة"، لم يتمكن المحققون من الاعتماد على حكومة متعاونة بشكل استثنائي ( أوغندا) في المساعدة في التحقيق. يظهر قرار المحكمة مدى التعقيد الذي يتسم به التحقيقُ في قضايا الجنود الأطفال في سياق يكون فيه وجود الوثائق والمستندات المكتوبة هو الاستثناء، وحيث الولاءات والنزاهة هي بمثابة سلع تباع وتشترى في حرب رهيبة. لم تكن كافة المشاكل من صنع الادعاء؛ فالتحقيق في مثل هذا الموضوع هو أمر بالغ الصعوبة.

والأمر الذي كان من شأنه أن يبعث على التفاؤل أن تشير المحكمة، بما في ذلك الادعاء، إلى أنها اعتبرت الحكم الصادر بحق لوبانغا فرصةً لاستخلاص دروس مهمة، إضافة للاحتفال بيوم تاريخي في مسيرة العدالة الدولية.

بنيت حركة العدالة الدولية على الشجاعة الثابتة لضحايا وناجين من أنحاء العالم لا يطيقون إفلات الجناة من العقاب عن الفظائع التي ارتكبت بهم. لقد تلكأت الدول في استجابتها، لكنها فعلت ذلك بشكل حاسم في عام 1998 عندما أنشأت المحكمة الجنائية الدولية، فقرعت بذلك ناقوس الموت لظاهرة الإفلات من العقاب؛ فما لم تقمْ الدول بالتحقيق والمحاكمة، فإنّ المحكمة ستقوم بذلك نيابة عنها.

لكن نجاح المحكمة يتطلب إجراء التحقيقات وإقامة الدعاوى القضائية على نحو ينال مصداقية كل من الضحايا والمجتمع الدولي بوجه عام. وتبرز بواعث القلق الجدية عندما تصبح نوعية الإجراءات القضائية هي الشغل الشاغل، وتطغى على الدفاع عن حقوق الضحايا.

اليوم وفي إيتوري ليس من الواضح حجم التأثير الذي سيحدثه حكم المحكمة على حياة الضحايا الذين عانوا على يدي لوبانغا عندما كانوا أطفالاً. فقد أصبح هؤلاء الأطفال بالغين الآن. وهم يعيشون في ظروف صعبة من الفقر وانعدام الأمن. يأمل كثيرون منهم في الاستفادة من قدرة المحكمة على إصدار أمر بدفع تعويضات مالية - وهي صلاحية فريدة في تاريخ العدالة الجنائية الدولية. تعاني جمهورية الكونغو الديموقراطية من الصراعات والفقر وضعف الحكومة، ومن التوتر المتعلق بالثروة المعدنية؛ والمدة الزمنية التي استغرقتها المحكمة في تحقيق العدالة هي عامل سلبي يحد حتماً من أثر قرار المحكمة.

لقد كان جلُّ الصراع في إقليم إيتوري بين قبيلة هيما التي ينتمي إليها لوبانغا وقبيلة ليندو. وقد عرض المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية قضيتين من هذه المنطقة على المحكمة. في كلتا القضيتين كان الضحايا من الهيما؛ حيث كان ضحايا لوبانغا من الأطفال من القبيلة التي ينتمي إليها، والقضية الثانية تتعلق بمجازر تعرض لها أفراد من الهيما على يد ميليشيا أخرى من الليندو. نتيجة لذلك، يسود اعتقاد لدى الأغلبية الساحقة من أبناء الليندو بأن المحكمة لا تعدو أن تكون أداة بيد قوات وقفت ضدهم؛ ولم تجدِ جهود المحكمة أي نفع يُذكر في استعادة الشعور بالثقة أو العدالة لدى الأهالي.

لكن هناك بعض الإيجابيات الجلية؛ فلا أحد يمكنه أن يشك في أن القضاة كانوا نزهاء إلى أقصى الحدود؛ ويمكن القول بأن المدعين بذلوا جهوداً مضنية لاستصدار حكم بالإدانة. إنها خطوة جليلة لحركة العدالة الدولية تنهض دليلاً على جدوى الجهود التي بذلها الكثيرون على مر العقود ممن أدت تضحياتهم إلى جعل العدالة حقيقة واقعة لأطفال منطقة إيتوري. لقد كان القصد من وراء إنشاء المحكمة هو المساهمة في الحيلولة دون وقوع الفظائع من خلال إنهاء الإفلات من العقاب. استغرقت المحكمة مدة طويلة في قضية لوبانغا وصحيح أن التحقيق في هذه القضية ربما لا يصلح أن يكون نموذجاً جديراً بأن تحتذيه الأجيال المقبلة، ولكن الأطفال في شتى أنحاء العالم سوف يجنون ثمار هذه القضية التي سلطت الضوء على ضعفهم ووقوعهم فريسة سهلة للانتهاكات؛ تلك إذن بداية مهمة.

ولئن كان المجتمع الدولي بحاجة لاستخلاص العبر مما يصفه القضاة بتحقيقٍ وادعاء معيبين، فإن الصورة الكبرى في مجملها لا يمكن أن تنمحي ولا ينبغي أن تضيع؛ فلا مفر من محاسبة قادة الجيوش وزعماء الدول على أفعالهم، ولا بد للعدالة أن تنتصر على الإفلات من العقاب.

بول سيلز هو نائب رئيس "المركز الدولي للعدالة الانتقالية" والمدير السابق لـ"قسم التحليل" التابع لمكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.

توماس لوبانغا يستمع إلى إجراءات في المحكمة الجنائية الدولية. مارسيل أنتونيس/AFP/Getty Images