تخيّل لَو أنّ أختكَ أو أخاكَ خُطِفَ وقُتِلَ في طريقِه من البيت إلى المدرسة، أو تخيَّل لَو أنّ أمّكَ أو أبَاك أُخْفِيَ قسرًا على يد فرقِ موتٍ عسكريّة، لكانت المُصيبة هذه حلّت عليكَ كالصاعقة وكَبّلت لكَ حياتكَ وَجعلتكَ أَسيرَ الحزنِ والأسى، ولكُنتَ رحتَ تبحثُ عن أجوبةٍ شافية، ولو بعدَ حين، كي ترى العدالة مُحقَّة. 

لكنْ، ماذا لو كان الحديث هذا لا يقتصرُ على ضحيّةٍ واحدة أو ضحّيتَيْن فحسب، بل يشمل عشرات الآلاف من الضّحايا؛ أناسٌ كأهلِنا وإخوتنا وأخواتنا وأطفالنا وقعوا ضحيّة القتل أو التعذيب أو التّعسّف أو الإخفاء القسري، أُناسٌ أُجبروا على الفرار من منازلهم بعد أن تملّكَ الخوف منهم، فخلّفوا وراءهم ذكرياتٍ بذلُوا حيواتهم من أجلِها.

فماذا نقصدُ بالعدالة في ظروفٍ كهذه؟ وكيف نُوازي بين مصالح العدالة والكرامة من جهة والسعي وراءَ السّلام والاستقرار من جهة أخرى؟ وكَيف السّبيل إلى إعادة إحياء قِيمَتَيْنِ أساسَّتَيْن، هُما الثّقَةُ والاحترامُ، في نظامٍ همّشته الأعمال الوحشيّة المرتكبة على نطاقٍ واسعٍ؟ وكيف للمُجتمعِ أن يتعافَى؟

تُعنى العدالة الانتقاليّة بالمُحاسبة والتعويض على الضّحايا، وهي تصبّ جُلَّ اهتمامها على احترام كرامة هؤلاء الضّحايا على اعتبارهم مواطنين وَبَشَرًا من لحمٍ ودَمّ. فَصحيحٌ أنَّ صرف النّظر عن الانتهكات الجسيمة لهوَ المنفذ الأسهل للخروج من المأزق، لكنّهُ يُدمّر القِيم التي يُبنَى عليها المُجتمعُ السّوِيّ.

وتتطرحُ العدالة الانتقاليّة أكثر الأسئلةِ حرجًا على الإطلاق في ما يخصّ القوانين والسّياسات. إذ تُولِي العدالة الانتقاليّة الضّحايا وكرامتهم الأهميّة القُصوى، وهي، بذلك، تُمهّدُ السّبيل نحوَ التّعهدِ بِضمان سلامة المواطنين العاديّين في بلادهم، بحيث يكونون بمأمنٍ من تعسّف سلطاتهم ومن جماعات العنف التي قد تُلحق بهم الأذى.

امرأة في مظاهرة تتطالب بالحقيقة والعدالة في البرازيل.(Circuito Fora do Eixo/Flick)


لِمَ نقوم بذلك؟ 

في العام 2001، أبصرَ المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة النورَ وكانَ العالمُ، آنَذاك، قد شهدَ تغيّرًا سياسيًّا في دُول المخروط الجنوبي من أمريكا اللّاتينيّة، وانتهاءَ الحروب الأهليّة في دُول أمريكا الوُسطى، بالإضافة إلى وضعِ حدٍّ للفصل العنصري في جنوب أفريقيا وانهيار الاتحاد السّوفياتي في أوروبا الشّرقيّة والوُسطى. وعليه، وجبَ على المُجتمعات التي واجهت التغيّرات تلك، أن تتصدّى لمسألة الانتهاكات والفظائع المُمنهجة، فكانَ ذلك بطرقٍ شتّى. 

جاكي مورتا، مشروع نعمة، كينيا
(للترجمة العربية اضغط/ي على الإعدادات)

يُركّز المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة اليومَ على بلوغ الأهداف الآنفة الذكر نفسها، وإن اختلفت مُمارسة العدالة الانتقاليّة واتّسعت نطاقًا في الأعوام القليلة المنصرمة. فقد كثُرت المُنظّمات التي تُعنى بالعدالة الانتقاليّة، إذ اتّخذت مُنظّمة الأمم المتّحدة خطّوات جدّية آيلة إلى تحديد بعض القواعد والممارسات في هذا الصّدد، كما وقد علَت أصواتٌ كثيرة تُطالب المنظمة هذه بمساعدة الدول على طيّ صفحة أعمال العنف المرتكبة في الماضي.

وتحكمُ عملنا معتقدات جوهريّة ثلاث مُعدّدة أدناه:

1. لكلٍّ منًّا الحقُّ في أن يحيا حياةً آمنةً فلا يخشى التّعرّضَ للاضطهاد أو العنف. وكلُّنا نتمتّعُ بحقٍّ أساسيّ هو احترام كرامتنا على اعتبارنا أناسًا بشريِّين، وهو حقٌّ لا يُمكن سلبَهُ منَّا لِمُجرّدِ أنّنَا نختلفُ في مُعتقاداتنا أو هيئتنا أو جذورنا عمَّن في يدِهِم السّلطة والوسائل الكفيلة بإلحاق الأذى بنا.

2. إن انتُهِكَت كَرامتنا الإنسانيّة الأساسيّة من خلال تعرّضنا للاضطهاد أو العنف الممنهج، فلا يُمكننا أن نكمَّ أفواهنا أبدًا. بل نحتاج إلى تعويضٍ عن الانتهاكات هذه بطرقٍ عمليّةٍ، بحيث تُحاسب الأفراد والمؤسّسات المسؤولة عن الانتهاكات مُحاسبةً جدّيّة تُبيّنُ أنّ لِلكرامةِ قيمةً حقيقيّة لا تُمسّ، وأنّها ليست مجرّد كلمةٍ تُردّدها الألسن.

3. لا يكفي أبدًا وضع التدابير الخاصّة بالمُحاسبة والتعويض، بل ينبغي أن يقترنَ ذلك باتّخاذ خطواتٍ آيلة إلى إعادة إيمان المُجتمعِ بقيمَتَيْن أساسيّتَيْن هُما الثّقة والاحترام، لئلّا تُرتكب الانتهاكات مُجدّدًا.

زيد رعد الحسين، المفوض السامي لحقوق الإنسان
(للترجمة العربية اضغط/ي على الإعدادات)

أهدافنا واقعيّة وملموسة، وهي:

• إنشاء مؤسّساتٍ خاصّةٍ بالمُحاسبة والعمل على استرجاع الثّقة بها

تعزيز احتكام المُستضعفين في المجتمعِ إلى القضاء في مرحلةِ ما بعدَ انتهاء أعمال العنف

• ضمان تأدية المرأة دورًا فاعلًا في السّعي إلى إقامة مجتمعٍ عادلٍ

• إعادة احترام سيادة القانون

• تيسير عمليات إرساء السّلام وتعزيز تسوية النّزاعات على نحوٍ مستدام

• تأسيس قاعدةٍ من شأنها التطرّق إلى الأسباب الكامنة وراء النّزاع والتهميش

• التأكّد من الاستماع إلى آراء الشّباب في االقضايا التي تمسّهم بشكلٍ مُباشر

• دفع قضيّة المُصالحة قدمًا

أسر ضحايا النزاع المسلح في بيرو تجتمع لتذكر أحبائها والمطالبة بالعدالة.(Marta Martinez/ICTJ)


تحدّياتُ عملنا

تُرافق مُواجهة الانتهاكات الجسيمة متاعِبَ جمّة. فصحيحٌ أنّ عشرات الآلاف من الضحايا يتمتّعون بالحقّ في عدالةٍ تُحَقُّ بطريقةٍ جديّةٍ، بيدَ أنّ الأسبابَ التي تُحدّدُ شكلَ أعمال العنف تنبثق أساسًا عن التهميش الاقتصاديّ والاجتماعيّ والعرقيّ في أغلب الأحيان.

ففي ظلٍّ ظروفٍ غير مؤاتيَةٍ، يستحيلُ على أنظمة العدالة التقليديّة أن تمنحَ الضّحايا العدالة التي ينتظرونها. إذ يتوقّفُ العملُ في هذا الصّدد على الطّبقةِ الحاكمة ومدى استقرار البلد وتوافر الموارد اللّازمة وصلابةِ موقف مجموعات الضّحايا والمجتمع المدنيّ بالإضافة إلى مدى اهتمام المجتمع المدنيّ بقضيّة هؤلاء الضّحايا.

فإن أمكنَ سَوق عددٍ ضئيلٍ من أصلِ مجموعةٍ كبيرة من المُرتكبين إلى العدالة، فعلَى أَيِّ مرتكبٍ منهم تُقرّر أن تصبَّ اهتمامَكَ أكثر، وَعلَى أيّ أُسُسٍ تتخِذُ قرارَكَ هذا؟ وإن كانت قُدرة الدّولة على المُقاضاة محدودة وضعيفة، فكيفَ تُقوِّي عُودَها لِتُمكِّنها من خوض مهمّةٍ خطِرةٍ في جوٍّ يحكمه انقسامٌ عموديّ وجذريّ؟ إن لَم تَقدِر على اكتشاف الحقيقة وراء كلّ حادثٍ حصلَ في الماضي، فأيّ نوعٍ من التحقيقات يُخوّلكَ معرفة مجريات الأحداث الماضية ويشرحُ لك، قدرَ المُستطاع، الأسباب التي أدّت إلى وقوعها؟ 

كلوديا باز ذ باز، النائب العام السابق، غواتيمالا
(للترجمة العربية اضغط/ي على الإعدادات)

إن كان البلدُ مدمّرًا بعدَ خروجه من الحرب، فكيفَ تُوازِي بين الحاجة إلى إعادة بناء البُنى التحتيّة من جهة وحقّ الضّحايا في التعويض عن مقتلِ مُعيلي عائلاتهم على يد الشّرطة أو عن هدم منازلهم على يد الجيش؟ كَيف تُقدّم الحوافزَ للمجموعات المُسلّحة كي تندمجَ مُجدّدًا في المجتمعِ، وتضمن عدم تجاهل الضّحايا في آنٍ معًا؟ كيفَ تمحو وصمة العار وصفة اللاإنسانية اللّصيقتيْنِ بالأعداء السابقين الذين كانوا أوّل مَن مهّد السبيل أمام ارتكاب الفظائع؟ وكيفَ لكَ أن تضمنَ عدم ارتكاب انتهاكات جسيمة مُماثلة مُجدّدًا؟

هذه الأسئلة وسواها هي غيضٌ من فيض المسائل التي نُواجهها يوميًّا في المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة. 

غيتا ريسالي، المنتدى المشترك لضحايا الصراع، نيبال
(للترجمة العربية اضغط/ي على الإعدادات)

يُركّزُ كثيرٌ من المجموعات المعنيّة بحقوق الإنسان على تسليط الضّوء على الانتهاكات والفظائع وعلى شجبها. فصحيحٌ أنّ ذلك أمرٌ غايةٌ في الأهميّة، بيدَ أنَّ التحديّ الأكبر يكمن في مُحاولة لَمْلَمَةِ أجزاء مُجتمعٍ مُتشظٍ وجمعها بعضها إلى بعضٍ. فالعدالة وسيادة القانون كفيلتان أن تُؤمّنا تماسكَ مجتمعٍ يُعلي من شأن كرامة الإنسان، إذ إنّ أهميّةَ هذين العاملَيْن تتجلّى، أكثر ما تتجلّى، في مرحلة ما بعد الانتهاكات المُمنهجة. وتتطلّب لملمة أجزاء المُجتمعِ المُتشظّي الثّبَاتَ في الكفاحِ ثباتًا طَويلَ الأمد وتأدية دورٍ فاعلٍ في التوصّل إلى الحُلول. لذا، ما إن تُطْفَأ أضواء الكميرات، يبدَأُ عملنا.

نستثمرُ خُبرات فريقنا المُوزّع على أصقاع العالم كلّها في البحث عن حلولٍ عمليّة وفي إيجاد أجوبةٍ للمُطالباتِ بالعدالة. ونتعاونُ عن كثبٍ مع شُركاءَ محليّين كي نُحيطَ علمًا بالظّروف السّائدة في الدّول المختلفة فنُحاولُ جاهدينَ أن نَرسمَ معالِمَ العدالة في أَحلكِ الظّروف وَأسوئِها. والجدير ذكره أنّ الخُطوات المُمكن اتّخاذها ووتيرة تنفيذها تختلفانِ من مكان إلى آخر. 

طالع/ي إنجازات خمسة عشر عاماً من عملنا. 

قد تكونُ مَقالِيدُ الحكم، بعضها أو أغلبها، في يد أفرقاء يَخشوَن العدالة. لذا، فمن شأن توزيع السلطة أن يُحدّدَ مِقدارَ العمل المُمكن إنجازه. وغالبًا ما تُبسطُ العدالة الانتقاليّة في المُجتمعات المُنقسمة انقسامًا جذريًّا. فقد تحتاجُ المُؤسّسات الضّعيفة إلى وقتٍ طَويلٍ واستثمارٍ كَبيرٍ قبلَ أن تقدرَ على مُعالجة الانتهاكات المُمنهجة. وقد يفلح المُجتمع المدني ومجموعات الضّحايا في إعلاءِ الصَّوْتِ بِمطَالِبهِما في بعض الأماكن، وقد يفشلان في ذلك في أماكنَ أخرى بسبب ضعفهما وتشرذمهما، فَيعجزان عن مُمارسة الضغط اللّازم على الحكومات. هذا وقد تفتقد وسائل الإعلام الاستقلاليّة التّامّة أو قد تنحازُ إلى طرفٍ دونَ الآخر، ويتضحُ ذلك جليًا من خلال مواصلتها بثّ رواياتٍ مُعيّنة وتقسيميّة. أمّا المُجتمعُ المدني فقد يُبدي اهتمامًا بدولةٍ أكثرَ من اهتمامه بدولةٍ أخرى. وعليه، فإنّ دعمَ العدالة وإحقاقِها رهنُ المُعطيات الآنف تعدادها إلى جانب معطياتٍ أخرى أيضًا.

تُعرّفُ العدالة الانتقاليّة على أنّها البحث عن أجوبةٍ شرعية تُعالِج الانتهاكات الجسيمة مع أخذ قيدَيْنِ في الحُسبان هُما نطاق الانتهاكاتِ وَهشاشة المجتمع، وهو الأمر الذي يُميّز العدالة الانتقالية عن نشر حقوق الإنسان والدّفاع عنها بشكلٍ عامّ.

وقد أُلّمَ اليومَ بممارسة العدالة الانتقاليّة إلمامًا أفضلَ، فهي صارت بمثابةِ الوسيلة الآيلة إلى مُواجهة التّفلّت من العقاب وإيجاد التعويضات الفعّالة والحؤول دون اندلاع أعمال العنف مجددًا؛ ولا يكونُ ذلك من خلال تنفيذ المعايير الموضوعةِ تنفيذًا اِعتياديًّا بل من خلال تقدير السياقات التي ستُحقُّ فيها العدالة الانتقاليّة تقديرًا واعيًا وَمُتأنيًّا.

تُعرّفُ العدالة الانتقاليّة على أنّها البحث عن أجوبةٍ شرعية تُعالِج الانتهاكات الجسيمة مع أخذ قيدَيْنِ في الحُسبان هُما نطاق الانتهاكاتِ وَهشاشة المجتمع، وهو الأمر الذي يُميّز العدالة الانتقالية عن نشر حقوق الإنسان والدّفاع عنها بشكلٍ عامّ.

فعلى مرّ السّنوات الخمسة عشرة المنصرمة، أدّى المركز الدولي للعدالة الانتقالية دورًا رياديًّا في ضمان نجاح لِجان الحقيقة في تيمور الشرقيّة والبيرو وسيرياليون، وذلك من خلال إسدائِه المشورة السّديدة ومؤازرته عمل اللّجان في المراحل كلّها. هذا وقد دَعَم المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة جُهود العدالة الجنائيّة في كلّ من غواتيمالا والأرجنتين عندَ مرورهما بأوقات عصيبة وحرجة.

وقد خَطا المركز الخطوةَ الأولى نحو ضمان تحرُّك الضحايا كي يُؤدّوا دورًا في المُداولات السّياسيّة في كلّ من أوغندا والمغرب والعراق وغيرها من الدول. إلى ذلك، فقد أتى المركز بعددٍ من الابتكارات إن من خلال اقتراح إجراء عمليات مسحٍ واسعة لحصر انتهاكات حقوق الإنسان أو من خلال وضعِ خططها من العام 2003 حتّى العام 2007 في أفغانستان ومؤخرًا في لبنان

جوسلين باندو مينكو، منظمة المساعدات المباركة، جمهورية الكونغو الديمقراطية
(للترجمة العربية اضغط/ي على الإعدادات)

توسّعَ نطاق عملنا اليوم ليشمل عددًا كبيرًا من الدول، بما فيها كولومبيا وساحل العاج وجمهورية الكونغو الديمقراطيّة وكينيا وبورما والنيبال وسريلانكا وأوغندا وتونس

في كُولومبيا وعلى مدى سنواتٍ طِوال، ركّز عملُنا، الذي نشطَ بعيدًا عن الأضواء، على مُحادثات السّلام بينَ الحكومة الكولومبيّة والقوات المُسلّحة الثوريّة الكولومبيّة، فحاولنا اكتشافَ السُّبُل الممكنة الرّاميَة إلى النظر في الحالات الكثيرة التي سُجّلت بين قتلٍ وإخفاءٍ قسري واختطاف وغيرها من الجرائم المُرتكبة خلال الحرب. لقد تعاونّا مع مجموعات الضّحايا، وذلك بغية تيسير مُشاركتها في محادثات السّلام الدّائرة في هافانا كما تعاونّا مع أَطفالٍ كانوا جُنودًا في الحربِ وذلك بهدف مُساعدتهم على الاندماج في المجتمع مجددًا. هذا وقد عملنا عن كثبٍ مع السلطات القضائية المحليّة لمُؤازرتها في تحسين خبرتها في التحقيق في الفظائع الممنهجة وفي المُقاضاةِ في شأنها بحيث يُساق إلى العدالة مَن هم في رأس الهرم. 



سهام بن سدرين، رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، تونس
(للترجمة العربية اضغط/ي على الإعدادات)

أمّا في تونس، فقد ساهمنا في سنّ القانون التاريخيّ حول العدالة الانتقاليّة الذي نصَّ على إنشاء لجنة حقيقةٍ كما ساهمنا في وضع عددٍ من التدابير، وذلك من خلال إسداء المشورة للجان النيابيّة على مدى سنةٍ كاملة. هذا وقد آزرنا مجموعات النّساء والاتحادات التّجاريّة وغيرها من المؤسّسات المنتشرة على امتداد الوطن كي تتسنّى لها المُشاركة في العمليات الانتقاليّة. وقد ساهمنا في إنشاء لجنة الحقيقة فَأوفدنا فريقنا إلى هناك لمُساعدتها في كُلّ مرحلةٍ من مراحل إنشائها، بما في ذلك جلسات الاستماع العلنيّة التاريخيّة الأولَى التي أدلَى الضّحايا خلالَها بدلوهم أمام اللّجنة وملايين الأشخاص الذين تابعوا تلك الإجراءات على التلفزيون والرّاديو والانترنت. ونحن لا ننفك ندعم نضالَ الضحايا من أجل معرفة الحقيقة وغير ذلك من المبادرات، في وقتٍ تُكافحُ فيه تونس كي تتعافَى من عقودٍ من الديكتاتوريّة. 

سلوى القنطري مديرة مكتب المركز الدولي للعدالة الانتقالية بتونس (في الوسط) تتشاور مع أعضاء شبكة "العدالة الانتقالية للنساء أيضا" بينما يقدمن الملف التاريخي الجماعي لهيئة الحقيقة والكرامة. (Tunisia IVD)


مَع مَن نعمل؟

يُشكّلُ الضّحايا ومصالحهم نُواةَ عمل المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة. ففي معظم الدّول، تعلُو أصوات عائلات الضّحايا والمنظّمات المحلّيّة، بما فيها دُور العبادة والاتحادات التجاريّة ومجموعات حقوق الإنسان، للمُطالبةِ بالعدالة وعدم تكرار الانتهاكات "أبدًا بعد". وعليه، نُؤازِرُ تلكَ المجموعات كَي تبلغَ أصواتها مسامِع المُجتمع الدّولي والحكومات على حدّ سواء وكي تتمكّن من قَولِ كَلمتها في وضع السياسات التي تعنيها. ولعلّ بعضًا من أكثرِ أعمالنا أهميّةً نتجَ من التعاونِ مع الضّحايا الرّامي إلى توعيتهم على حقوقهم وإلى مؤازرتهم في الدّفاع عن مصالحهم من خلال اتّباعِ سُبُلٍ لا يُمكنُ السّياسيون والمجتمع الدولي غضَّ الطرفِ عنها. هذا وقد تحالفنا وإيّاهم فِي رفعهم الدّعاوى ضدّ المُرتكبين وفي بحثهم عن الحقيقة حول أفراد عائلاتهم المخفيين قسرًا وكذلك في مطالباتهم التعويض عن الأضرار التي لحقت بهم.

أولغا أمبارو سانشيز، كاسا دي لا موهير (منظمة بيت النساء) ، كولومبيا
(للترجمة العربية اضغط/ي على الإعدادات)

مَتى عَقَدَت الحكومات أو السلطات القضائيّة أو المُنظّمات الدوليّة العزَمَ على سنِّ قوانين والسياسات أو المؤسسات على مُعالجة انتهاكات الماضي، يبرز المركز الدولي للعدالة الاجتماعيّة بصفته منظمة "غبّ الطلب" مُزوّدة حصريًا بما يُخوّلها إسداء النصائح السّديدة والقيام بالتحاليل العمليّة. فنحن نعملُ مع هذه الجهات من أجل وضع برامج جبر الضرر والتعويض، ونسهر على حُسن تطبيقها. هذا ونُؤازر القُضاةَ والمُحققين، ذلكَ أنّهم يُواجهونَ عددًا كبيرًا من الدّعاوَى في ظلّ شحّ الموارد المُتاحة أمامهم. 

مَتى عَقَدَت الحكومات أو السلطات القضائيّة أو المُنظّمات الدوليّة العزَمَ على سنِّ قوانين والسياسات أو المؤسسات على مُعالجة انتهاكات الماضي، يبرز المركز الدولي للعدالة الاجتماعيّة بصفته منظمة "غبّ الطلب" مُزوّدة حصريًا بما يُخوّلها إسداء النصائح السّديدة والقيام بالتحاليل العمليّة. 

إلى ذلك، نُساهمُ في إنشاء لجان التحقيق ولجان الحقيقة التي من شأنها أن تُمعنَ النظرَ في مُجريات الأحداث وأسبابها وأن تقترحَ تدابير تؤول إلى عدمِ اندلاع أعمال العنف مُجدّدًا. ففي الواقع، تكتسب اللّجان آنفة الذكر أهمية كُبرَى بالنسبة إلى الضّحايا والمجتمع، وذلك لأسبابٍ عديدة لعلّ أبرزها انتزاع اللّجان اِعترافًا باقتراف الانتهاكات وتجديد الالتزام السيّاسيّ والاجتماعيّ بالقيم الاجتماعيّة الجوهريّة. بيدَ أنّ ذلكَ كلَّه وقفٌ على حُسنِ تأليف اللّجنة، إذ لا بدّ أن يؤدّي الضّحايا دورًا محوريًّا فيها، عِلمًا أنّه لا ينبغي اعتبار هذه اللّجان بديلًا يحلّ محلّ العدالة الجنائيّة. 

المنصف المرزوقي، الرئيس السابق، تونس

أَمْضَى المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة سنواتِه في العمل الدّؤوب وفي إقامة الشّراكات المُثمِرة، فأصبحَ بفضل ذلكَ مصدرًا موثوقًا يُسدِي النصائِحَ إلى وُسطاء السّلام. إذ يرمي عملُنا إلى أن نضمنَ طرحَ العدالة على طاولة المُفاوضات وأن نُساعِدَ المُتفاوضينَ على معرفة النّقاط النّاجِحةِ المدرجة في اتفاقات السّلام المُبرمةِ سابقًا بغية إدراج العدالة في الاتفاقات الجديدة وإفساح المجال أمام مُختلف الأفرقاء لِتركِ السّلاح. وقد ينطوي هذا الأمر على صياغة الأحكام الخاصة بقوانين العفو الشّرعية وعلى تحديد كيفيّة إدخالها حيّزَ التنفيذ دونما خرق القانون الدّولي، كما وقد ينطوي على تحديد الدور المُحتمل الذي قد تؤدّيه المحاكم الوطنيّة والدوليّة بعدَ توقيع اتفاق السّلام. هذا وقد يتطلّب ذلك أيضًا تحديد ولايات لجان التحقيق المعنيّة النّظر في أسباب اندلاع النّزاع وفي عواقبه. 

فومزيل ملامبو، هيئة الأمم المتحدة للمرأة
(للترجمة العربية اضغط/ي على الإعدادات)

لا تكفي النوايا الحسنة والتعهدات الجادّة وحدها لإحقاق العدالة الحقّةِ وإرساء السّلام المستدام في مُجتمعاتٍ عاثت انتهاكات كرامة الإنسان المُمنهجة فيها فسادًا وخرابًا، فالأمر يتطلّبُ مهارةً وخبرةً وعزيمة على المُضي قدمًا في العمل بعدَ أن تبتعدَ الكاميرات عن الميدان وتُسلّط وسائل الإعلام الضوءَ على قضيّةٍ جديدة. وَلمّا كُنّا نتطلّع إلى أن نكونَ جديرينَ بثقةِ السّاعِين إلى إحقاق العدالة فِي وقتٍ أصبحَ السّلامُ فيه أمرًا لا مندوحة عنه، جَمَعنا المعرفة من أصقاع العالم كلّها ونظّمنا منتدياتٍ مُبتكرةً هدفها الإتيان بحلولٍ مستدامة ورياديّة. 

أمّا أبحاثنا فترمي إلى تعزيز المعرفة العالمية بالإخفاقات والنّجاحات في مجال العدالة الانتقاليّة، وإلى نشر هذه المعرفة إن على الصّعيد المحلي أو الإقليميّ أو العالميّ وذلك من خلال مُشاطرتها في المنشورات ووسائل الإعلام والتوصيات الخاصة بالسياسات وجلسات العمل والاجتماعات الدوليّة.

وَلمّا كُنّا نتطلّع إلى أن نكونَ جديرينَ بثقةِ السّاعِين إلى إحقاق العدالة فِي وقتٍ أصبحَ السّلامُ فيه أمرًا لا مندوحة عنه، جَمَعنا المعرفة من أصقاع العالم كلّها ونظّمنا منتدياتٍ مُبتكرةً هدفها الإتيان بحلولٍ مستدامة ورياديّة.

كان هذا العمل ممكنا خلال 15 عاما الماضية بفضل الدعم الحاسم من الجهات المانحة الذي تعترف بالأسباب وراء أهمية مسألة الحقيقة والعدالة في ظروف قد يفضل العديد فيها تجاهل مطالب الضحايا والعمل الجاد على ضمان استيفاءها. على مر السنين وكان من ضمن المانحين حكومات ومؤسسات وأفراد، ونحن نُعول بفخرعليهم كحلفائنا في النضال من أجل العدالة.

يتطلّع المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة إلى المُضيّ قُدمًا في عمله وإلى المُساهمة في تأمين الوسائل اللّازمة لِلأفراد الطّامحين إلى إعادة بناءِ مجتمعٍ حيث للحياةِ قيمةٌ مقدّسة وحيث الدّولة تحمي ولا تؤذي، وحيث قِيمُ الثّقة والكرامة والاحترام تُوّلف ما بين الأفراد حتّى بعدَ تجرّعهم مرَّ النّزاع والانقسام. سنمضي قدمًا لأنّنا على يقين أن لَا قاعدة تُبنى عليها البداية الجديدة بعدَ طي صفحة الانتهاكات الجسيمة، غير قاعدةٍ أساسها العدالة والحقيقة والكرامة.

 

ديدييه جبري من المركز الدولي للعدالة الانتقالية مع أعضاء شبكة العمل من أجل العدل والسلام في ساحل العاج. (ICTJ)

المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة في عامه الخامس عشر

بَيَّنت سنوات المركز الدولي للعدالة الانتقالية الخمس عشرة أنّ المُطالبة بالعدالة والجهود المبذولة لإعادة بناء المجتمعات تنبثق من سياقاتٍ مختلفة وتتخذ أشكالًا متعددة. وثمّة أسباب تدفعُ إلى الاعتقاد بأنّ الجهود تلك تعود فعليًّا بالمنفعة القيّمة على الدّول حيث بُذلت، لكنّ ذلك لم يحُل دونَ توقّف حالات الانتهاكات الجسيمة والتعسّف قط. 

أميناتا سيسي، شبكة العمل من أجل العدل والسلام، ساحل العاج
(للترجمة العربية اضغط/ي على الإعدادات)

فعلى مرّ السنوات الخمس الأخيرة في سوريا، شهدنا بأمّ العين على إضرام النار في اتفاقيات جنيف، إذ أقدمت، بشكلٍ أساسيّ، القوات الحكومية وحلفاؤها الدوليون على قصف المدنيين والمستشفيات والمدارس بأسلحة غير شرعية، فتهجّر، إثر ذلك، الملايين قسرًا. وها نحن اليوم نرى في الفيلبين حملةَ "تطهيرٍ اجتماعي" حصدت آلافَ الأرواح في غضون سنةٍ من الزّمن. هذا ويتصدّى عدد من دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى للمراحل الانتقاليّة السيّاسية التي تراوح مكانها، إذ يخيّم عليها التّخبطُّ والحيرة في شأن كيفية التعامل مع جرائم الحكّام المستبدين السابقة. 

في السنوات القادمة، سيصّب المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة جُلّ اهتمامه على عددٍ ضئيلٍ من الحالات. فإن كان ثمن الحرّية الحذرَ الدّائم، فثمنُ العدالة رباطة الجأشِ الأبديّة. ولَكَم هو جميلٌ أن نتابعَ رحلةً مسارُها لا ينتهي، بيدَ أنّ عوائق جمّة تقف عثرة في سبيلنا. فمُحاولةُ التّعسّف في استعمال السلطة واقعٌ حقيقيّ لا يحتاج إلى دليل، حتّى في الأنظمة الديمقراطيّة. أمّا ضحايا التّعسّف هذا فهم أفرادٌ لا فرقَ بينهم وبينَ أمّكَ وأبيكَ وأخيكَ وأختكَ وابنك وابنتكَ. وكلّما زادَ الإخفاقُ حجمًا واشتّدَ التعسّف فظاعةً، ألحّت الحاجة إلى إعادة الاعتبار إلى كرامة المواطنين وإلى ضبطِ حدود السلطة.

إن كان ثمن الحرّية الحذرَ الدّائم، فثمنُ العدالة رباطة الجأشِ الأبديّة 

فِي غضونِ أشهرٍ قليلةٍ، سنحتفل في المركز الدولي للعدالة الانتقالية بمضي خمسة عشر عامًا على مُساهمتنا في إيجادِ عالمٍ أفضل، وسنخبركَ قصصًا تحكي عنَّا وعن عملنا.

سنُسلّطُ الضّوءَ على إنجازاتٍ نعدُّها مدعاةَ فخرنا الأكبر في عملنا في سبيل نشر المُحاسبة والاعتراف والإصلاح وسيادة القانون وتقفّي أثر المخفيين قسرًا وإشراك الضّحايا والمجموعات المهمّشة والتعليم والإعلام وغيرها من المجالات حيث تؤدي العدالة الانتقاليّة دورًا في تعافي المُجتمعات التي أعيَتْها الانتهكات الجسيمة لحقوق الإنسان

ليلى زروقي ، ممثلة خاصة للأمين العام معنية بالأطفال والنزاع المسلح
(للترجمة العربية اضغط/ي على الإعدادات)

سنتشاطر وإيّاكَ بعضَ الأفكار حول الوقع الذي أحدثه عمل المركز الدولي للعدالة الانتقالية، أفكارٌ عَبّرَ عنها أشخاصٌ شَاركونا نضالَنا من أجل إحقاق حقوق الإنسان ومُحاربة التّفلّت من العقاب. فهذه الشّراكات إنّما هي غاية في الأهميّة بالنسبة إلينا. هذا وسنُطلعكَ على سِيَرِ أفرادٍ يُرابِطُون في خنادقِ معركتِنا المُشتركة فنُعرّفكَ بذلك إلى حُلفائِنا وإلى المواضع التي تهمّنا أكثر من سواها في الدّول التي تتعامل مع إرثِ العنف السّامّ.

أمّا مشروعنا المُتعدّد الوسائط حولَ نضال عائلات المختطفين في غواتيمالا من أجل إحقاق العدالة، فمن شأنه أن يُبيّنَ أوجهَ تطوّر هذا النّضال على مرّ الزّمن وفي ظلّ أكثر الظّروف حُلكةً وصُعوبةً. هذا وسنكشف النّقاب عن نتائج مشروعنا البحثي المُعنون "العدالة في السّياقات المختلفة"، فنُحَفِّز بذلكَ النّقاشَ حول مُستقبل العدالة الانتقاليّة وعلاقتها ببعض التّحديات العصيبة التي تُواجهنا اليوم.

وإذ نكشف النّقاب عن نتائج مشروعنا البحثي المُعنون "العدالة في السّياقات المختلفة"، إنّما نُحَفِّز بذلكَ النّقاشَ حول مُستقبل العدالة الانتقاليّة وعلاقتها ببعض التّحديات العصيبة التي تُواجهنا اليوم.


وفي الوقت الذي نحتفل فيه ببلوغ المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة عامه الخامس عشر من خلال عرض القصص هذه كلّها، سنُعرّفكَ أيضًا إلى أحدِ أصولنا الأكثر قيمةً وأهميّةً، ألا وهو فريق المركز. فستلتقي أصدقاءَ أصبحوا، بفعل السّنين، أفرادًا من عائلة المركز وستستمعُ إلى حواراتٍ مباشرة مع أشخاصٍ يعملون اليومَ مع المركز. سنحتفي بِمَن جعلُوا مِن المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة حليفًا جديرًا بثقةِ السّاعين إلى معرفة الحقيقة وإحقاق العدالة حولَ العالم، من نيروبي إلى لاهاي ومن كينشاسا إلى كاتماندو ومن تونس إلى بوغوتا.

 
بنات تبتسم في حي بارانكويلا الذي يشكل النازحين قسرا بسبب النزاع المسلح أغلب سكانه، كولومبيا . (Camilo Aldana Sanín/ICTJ)

اكتشف/ي الوقع الذي أحدثه عمل المركز الدولي للعدالة الانتقالية: 
إنجازات خمسة عشر عاما

****

الصورة الرئيسية  (بدءا من أعلى اليسار):  آلاف من الكولومبيين يسيرون في شوارع بوغوتا للمطالبة السلام(Astrid Elena Villegas/ICTJ) ؛سلوى القنطري مديرة مكتب المركز الدولي للعدالة الانتقالية بتونس (في الوسط) تتشاور مع أعضاء شبكة "العدالة الانتقالية للنساء أيضا" بينما يقدمن الملف التاريخي الجماعي لهيئة الحقيقة والكرامة (Tunisia IVD)؛ الديكتاتور السابق ايفرين ريوس مونت يواجه المحاكمة بتهمة الابادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية في غواتيمالا (Sandra Sebastián/Plaza Pública)؛ميريام ريمون مديرة مكتب المركز الدولي للعدالة الانتقالية في جمهورية الكونغو الديمقراطية مع ممثلي المحاكم العسكرية (ICTJ).